إنهم يريدون أن يجردونا من كل شيء، ويتركونا هكذا كمَّا مهملا، بلا صوت ولا حركة، ولا وعي ولا إرادة، ولا كرامة ولا حرية، ولا قدرة على التعبير عن الرأي، بل ولا تكوين رأي من أساسه. إنهم - في الحقيقة - يريدوننا مسخا مشوها، الصورة صورة إنسان، والمعاملة معاملة حيوان، منزلة بين المنزلتين، وحتى حقوق الحيوان ما رعوها. إنهم مثل سارق صعد إلى شقة مسافر، يريد أن يتركها خرابا يبابا، قاعا صفصفا، أو مثل قاطع طريق يحسب نفسه في منتهى الكرم والإنسانية حين ترك لك ملابسك المهندمة وحذاؤك الثمين، يريدون أن يأكلوا الشعب لحما ويرموه عظما، وما علموا أن لحم الشعب مر، وأنه سيفتت عظامهم، قبل أن يهنأوا بلحمه. عندما كان الإسلاميون وحدهم هم القادرون على الحشد، قالوا: المسألة ليست بالحشود. وعندما كانوا في المعارضة، قالوا: الصناديق هي من تفرز من يمثل الشعب. فلما فاز الإسلاميون في الانتخابات، قالوا: الديمقراطية ليست الصندوق فحسب. فلما تولوا السلطة، ونزلوا ليعبروا عن رأيهم، قالوا: لماذا تتظاهرون، ليس لمَن في السلطة أن يتظاهر، إنما تتظاهر المعارضة. فلما عزل الإسلاميون عن السلطة وتظاهروا اعتراضا على الانقلاب، قالوا: أنتم تعطلون الإنتاج. فلما استمروا في التظاهر، وضعوا مادة في مسودة الدستور ألا يعزل الرئيس مهما عظمت حجم المظاهرات ضده!! إنهم ليسوا سياسيين، إنهم يلعبون بالبيضة والحجر والثلاث ورقات. أيها المواطن المصري المسكين: كن ما شئت، ليبراليا أو علمانيا، أو ناصريا أو اشتراكيا أو شيوعيا، أو كن إسلاميا سلفيا كحزب النور، أو حتى إخوانيا بلا عنف، فالسبل أمامك ميسرة، والصحف مفتوحة، والفضائيات مرحبة، كل ذلك حاصل شريطة ألا تعارض الانقلاب، فإذا عارضته فلن يشفع لك انتماؤك أيا كان. إذا أردت أن تنتقد رئيسا فدونك مرسي، أو تنتقد جماعة فأمامك الإخوان المسلمين، أو تنتقد حزبا فعندك الحرية والعدالة، أو تنتقد تيارا فعليك بالتيار الإسلامي، فأين ما يدعيه المغرضون من مصادرة الرأي، والحجر على حرية التعبير. إنهم يريدون أن يحولوا السلطة إلى دابة يركبها المستبد، و(يدلدل رجليه)، وقد يرخي لها العنان حين يربطها، فإذا ملها أو ملته، ركبها مستبد آخر، وهكذا داوليك. يريدوننا بلا عزة ولا كرامة، حيثما وجهنا توجهنا، همجا رعاعا، غوغاء أتباع كل ناعق، نميل مع كل ريح، ونجيب كل داع، ونرفع صورة كل رتبة، لواء أو فريقا أو مشيرا، ونصفق لكل متكلم، حتى ولو كان من عينة قائد الانقلاب، الذي لا يحسن إكمال الجملة من غير فأفأة أو تأتأة، أو سرحان أو توهان. يريدون أن يجردونا من اختيارنا، وقد جربوا نتيجته ست مرات فلم يأت لهم بخير، فرأوا أن يختاروا هم بدلا عنك، أو أن تختار أنت بين الشيء وظله، أو أن يستبعدوا المغضوب عليهم والضالين من السباق، ويتيحوا لك الاختيار من المنعم عليهم، المرضي عنهم، وإلا فلترحهم من اختياراتك ومن نفسك. يريدون أن يجردونا من إرادتنا، فالإرادة رهينة بمشيئة من نصب نفسه مكان فرعون، الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم ويعتقل نساءهم، وإن لم يعلن بعد أنه ربنا الأعلى. يريدون أن يمنعونا من التعبير عن رأينا، فمهما كان رأيك فاكتمه داخل صدرك، ولا تحدث به نفسك، ولا تبح به لأحد، وإلا فعيوننا مبثوثة، و(الحيطان لها ودان) كما تقول الأمثال، وهاتفك مراقب، وبريدك الإليكتروني مراقب، وحسابك على الفيسبوك والتويتر مراقب. بل الأفضل ألا تتبنى رأيا مخالفا، فمجرد الإحساس بوجود المخالف وإن لم يعلن عن نفسه، يتسبب في إزعاج السلطات، وربنا يكفينا ويكفيك ما يترتب على إزعاج السلطات، خاصة إذا كانت ظالمة غاشمة. حتى رابعة، بداية يقولون: إنها ليست إلا إشارة مرور صغيرة. تقول: اتركوها. يقولون: لا! إنها تزعج السكان وتعطل المرور سنفضها بدون خسائر. وهل قتل آلاف أو خمسة آلاف من المارقين من حظيرة وطنيتهم يعد خسائر! يرفع شعار رابعة الحوائط فتدهن، وعلى الأوراق فتمزق، حتى على الأصابع فيجازى رافعها أو يهان والأصل أن يعتقل. وآخر تقليعة هي محاولة نزع مضمون إشارة رابعة، فيقول قائلهم: إن إشارة رابعة لا تحمل مضمونا سياسيا، إنما تحمل مضمونا إنسانيا للتضامن مع شهداء رابعة ومصابيها، وليست بالضرورة تعبيرا عن اتجاه سياسي مطالب بعودة الشرعية، ومعارض للانقلاب، ومقاوم للاستبداد. يا من أشبه النعامة تدفن رأسها في الرمال مختبئة من الأسد، يا من يستر عينيه من الضوء ظانا أنه قد حجب الشمس، يا من أوقف ساعته يحسب أنه أمسك عجلة التاريخ، إنكار الواقع لا يلغيه، وقهرك المخالفين لا يثنيهم، وستحين ساعة الحساب الآن أو بعد حين، فأعدَّ للسؤال جوابا.