باتَ انفصال جنوب السودان عن شمالِه حقيقة واقعة، ولا يعدو الاستفتاء المقرَّر في يناير المقبل إلا أن يكون تدشينًا رسميًّا لذلك الانفصال، ولذا فإن تأخُّرَه أو تعذر إقامتِه لن يغير شيئًا من الأمر، وإنما يبقى السؤال المهمّ هو: هل استعدَّ العرب للتعامل مع ذلك الوضع الجديد، وإذا كان الكثير من القوى السياسية في شمال السودان تتعامل بواقعيَّة مفرطة مع ذلك الخيار، بل إن البعض أخذ يجهر بتأييده والدعوة إليه في السنوات الأخيرة، فماذا عن موقف مصر، التي يرى البعض أنها المتضرِّر الأكبر من ذلك الانفصال، الذي كان يشكِّل قبل نحو عقدٍ من الزمان خطًّا أحمر للأمن القومي المصري، ثم تحوَّل الموقف في الآونة الأخيرة إلى نوع من دبلوماسيَّة الإقرار بالأمر الواقع ومحاولة التكيُّف معه. ويعزو البعض هذا التغير في الموقف المصري إلى العلاقة المتميزة التي تجمع بين القاهرة والعديد من قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، الحزب الحاكم في الجنوب، حيث أن الكثير منهم تخرجوا من الجامعات المصرية، كما أن القاهرة شكلت منذ أمد بعيد محطة دعم رئيسية للحركة، خاصةً في ظلّ قيادة زعيمها الراحل (جون قرنق) إذ أن رؤية الرجل كانت تنصبّ على إقامة دولة علمانيَّة في عموم السودان، وطموحه تركز على رئاسة السودان بأكمله أكثر من مجرد قيادة دولة ممزقة في الجنوب، وهو الأمر الذي كان يتلاقى مع توجُّهات السياسة المصرية. جناية النفط وفي هذه المرحلة، أي حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي، لم يكن النفط المكتشف في الجنوب يشكل أمرًا مهمًّا ودافعًا قويًّا للانفصال كما هو الحال حاليًا، فعمليات التنقيب تعطَّلت وقتئذ، إثر انسحاب الشركات الغربيَّة العاملة هناك، بسبب هجمات الحركة الشعبيَّة المتمرِّدة (حينئذ) وعدم رضا الغرب عن سياسات الجبهة الإسلاميَّة الحاكمة في الخرطوم، ولذا فإن رفع الحركة الشعبيَّة لورقة "حق تقرير المصير" كان يشكِّل وسيلة ضغط للحصول على أكبر نصيب ممكن من كعكة السلطة والثروة، أو في أقصى الاحتمالات الوصول إلى صيغة علاقة جديدة تجمع بين الشمال والجنوب سواء فيدرالية أو كونفدراليَّة. ومن المفارقات أنه في هذه المرحلة كان معظم الدعم المالي والعسكري الذي تحصل عليه الحركة الشعبية يأتي من جهات عربيَّة، وبالتحديد ليبيا، أما القاهرة فإنها سمحت لقادة الحركة بحرية التحرك على أراضيها، وفتحت أبواب جامعاتها أمام كوادر وأعضاء الحركة، كما استقبلت مئات الآلاف من أبناء الجنوب كلاجئين، حيث تقدر أعداد الجنوبيين في مصر بأكثر من مليوني شخص من أصل أربعة ملايين سوداني ينتشرون في البلاد من أسوان إلى الإسكندرية. قوَّة ناعمة وكانت الدبلوماسية المصرية تهدف من وراء كل هذه التسهيلات إلى امتلاك "قوة ناعمة" تمكنها من التأثير في خيارات الجنوبيين وجعل خيار الانفصال غير محبذ، خاصة أن قرنق نفسه كان يدرك حجم التعقيدات المترتبة على قيام دولة في الجنوب، ففضلا عن حالة التمزق العرقي والقبائلي، فإن الجنوب أشبه بمستنقع مائي كبير، وموارده فقيرة للغاية، إضافةً إلى أن هذه الدولة ستكون حسبية بلا أي شواطئ تربطها بالعالم. ورغم أن القاهرة لم ترحِّب كثيرًا باتفاق نيفاشا (عام2005)، الذي جاء على حساب وساطة أخرى كانت تقودها مع ليبيا، خاصةً أن الاتفاق منح الجنوبيين حق الاستفتاء على تقرير المصير بعد ستّ سنوات انتقالية، إلا أن الدبلوماسية المصرية حاولت التعامل مع الاتفاق باعتباره أمرًا واقعًا، إضافة إلى أن الكثيرين توقعوا ألا يمضي تنفيذ الاتفاق لنهاية الشوط، كمصير العديد من الاتفاقيات السابقة التي وقعها الفرقاء السودانيين، لكن وفاة جون قرنق الغامضة، إثر سقوط طائرة كان يستقلها في أوغندا، قلبت المائدة وأعادت خلط الأوراق بصورة كبيرة، خاصة بالنسبة للقاهرة. هذا الخلط جاء لكون قرنق كان يتزعم تيارًا داخل الحركة الشعبية يساند بقاء السودان موحدا، وكانت مطالبه تتركز في إعادة صياغة نظام الحكم في السودان بما يمنح الجنوب مزايا وسلطات أوسع، وفي المقابل كان هناك جناح آخر يتزعمه نائبه كير سلفا يطالب بالانفصال، لكن شعبية قرنق وعلاقاته المتشعبة داخل السودان وخارجه طغت على التيار الأخر، خاصة أن سلفا لم يكن معروفًا على الصعيد الخارجي، فهو أشبه بزعيم قبلي، لا رجل سياسة محنك كقرنق. خسارة مزدوجة رحيل قرنق وتولي كير سلفا قيادة الحركة أربك أوراق القاهرة، فالرجل لم يكن معروفًا جيدًا في أروقتها، كما أن توجهه نحو الانفصال لم يكن مريحًا للمصريين، وفاقَم من تعقيد الأمر أن إدارة جورج بوش وضعت السودان على أجندة أولوياتِها، بضغط من لوبي جماعات التنصير واليمين المسيحي المتشدد، وانصبَّ التحرُّك الأمريكي تجاه السودان في اتجاهين: الأول دعم التيار الانفصالي في الجنوب، والثاني تصعيد الضغط على الخرطوم بشأن الأزمة في إقليم دارفور، وطرح الملف في كافة المحافل الدوليَّة لإدانة الخرطوم من ناحية، ومن ناحية أخرى إنهاكها ماديًّا وسياسيًّا بما يحول بينها وبين بذل أي جهد تنموي أو سياسي لتحفيز الجنوبيين على التصويت لصالح الوحدة. ورغم أن القاهرة واصلت سياسة "القوة الناعمة" تجاه الجنوبيين وقيادتهم، حيث أقامت بعض المشاريع التنمويَّة والاجتماعيَّة، وقام الرئيس المصري بزيارة غير مسبوقة إلى عاصمة الجنوبجوبا، إلا أن قدرات مصر تبقى محدودةً ولا تقارن بالوعود الضخمة التي يقدِّمها الغرب للدولة المنتظرة، وحتى وعود المساعدة والدعم التي قدَّمها العرب في المؤتمر الذي استضافته القاهرة لدعْم الجنوب وتحفيز خيار الوحدة لدى الجنوبيين بقيت حبرا على ورق، ولذا فإن البوصلة المصريَّة تحوَّلت مؤخرًا من الحفاظ على وحدة السودان، إلى نسج علاقات جيِّدة مع الدولة المرتقبة في الجنوب. المساس بالنيل وهنا تثور تساؤلات في غاية الأهميَّة؛ من قبيل: هل هذا التحرُّك المصري كافٍ لضمان ألا يؤدي ظهور دولة جديدة في حوض النيل لأي تأثيراتٍ سلبيَّة على حصة مصر في مياه النهر، بمعنى هل سيقتسم الشمال والجنوب الحصة الحالية المخصَّصة للسودان في مياه النيل، أم أن الشمال سوف يتمسك بحصته الحالية، على أن يطالب الجنوب بحصة جديدة، وهل ستقبل الدولة الجديدة بالاتفاقيات الموقَّعة بشأن تقاسم المياه أم ستطالب باتفاق جديد، الأمر الذي يُضعف بشدة موقف مصر الرافض لمحاولات دول المنبع إعادة صياغة تلك الاتفاقات، خاصةً أن هذه الدول سوف تتحجَّج بأن هناك أوضاعًا جديدة استجدَّت تستوجب إعادة النظر في الاتفاقيات القديمة. كذلك فإن الحكومة الحالية في السودان طالما سعت للإبقاء على علاقات متميزة مع القاهرة، ودعمت موقفها في مواجهة باقي دول حوض النيل، وذلك سعيًا للحصول على دعم مصر في ملفات الجنوب ودارفور، فهل سوف تستمرُّ الخرطوم في ذلك عقب انفصال الجنوب، خاصةً أن هذا الانفصال سوف يحرم الشمال من عائدات بتروليَّة ضخمة، مما سيدفعها للتركيز على الاستثمار الزراعي لتعويض ذلك، وبالتالي فإنها ربما تتخذ موقفًا أكثر تشدُّدًا فيما يتعلق بملف المياه، خاصةً أن وقوفها بجانب القاهرة في مواجهة دول المنبع ارتبط -وفقًا لما يراه بعض المراقبين- بدوافع عاطفية تجاه مصر أكثر من كونه دفاعًا عن مصلحة سودانيَّة بحتَة. الحياد الممنوع وإذا كان الكثيرون يتفقون على أن ولادة دولة الجنوب سوف يكون عسيرًا، بل إن البعض يتوقَّع عودة الحرب مجددًا مع الشمال، بسبب خلافات عدَّة على الحدود والبترول وعلاقات الجيرة المتوقَّعة، فإن ذلك سوف يشكِّل مأزقًا حرجًا للقاهرة، فأي ميل تجاه طرف على حساب آخر سوف يعرِّضها لمخاطر عدة، كما أنها في ذات الوقت لا تستطيع الابتعاد أو اتخاذ موقف الحياد التام، حتى لا تترك الساحة أمام الآخرين لملء فراغ غيابها، ويُفاقم من خطورة الأمر أن الجنوبيين سوف يلوحون بورقة "العرب والأفارقة" في أي صراع محتمل مع الشمال، مما يزيد من حَرَج الموقف المصري، الذي يشكِّل ارتباطه بأفريقيا والنيل وجهين لعملة واحدة. أما التحدي الأهمّ فيكمُن في أن تلك التطورات الحاسمة تحدث بينما القاهرة مشغولة حتى منتصف العام المقبل بانتخابات برلمانيَّة ورئاسيَّة تستهلك جل طاقتها، وتحولُ دون توجيه الطاقة والاهتمام اللازم لمعالجة قضيَّة بمثل تلك الخطورة، حيث إنها تمسُّ بشكلٍ مباشر مصالح مصر الاستراتيجيَّة، بل ومصدر الحياة فيها، متمثلًا في نهر النيل، ولذا فإنه يمكن القول بأن الحديث عن تآكل مؤسَّسات الدولة في الداخل، بات يصاحبه حديث آخر عن تآكل مصالحها في الخارج، وهو أمر أشدُّ تأثيرًا وأبعد أثرًا. المصدر: الاسلام اليوم