لا أتصور أن تأمين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية لمحكمة "نورمبرج" التي حاكمت القادة النازيين كانت بمثل درجة التامين الضخمة من جانب السلطات في مصر لمحكمة الرئيس المعزول محمد مرسي. هناك مبالغات تفوق الوصف وكأن الذي سيقف في القفص هو هتلر الذي تسبب في إزهاق أرواح أكثر من 50 مليون إنسان وليس رئيسا تم عزله في ظروف مازلت مثار جدل لليوم ولم يقض في الحكم سوى عام واحد وكان بمثابة كمن دخل القصر الجمهوري ولم يكمل احتساء كوب شاي حتى طلبوا منه مغادرته، كما أن التهم الموجهة له لا تعني أنه مُدان. المبالغات في مصر لا تقتصر على الاستعدادات الأمنية لتأمين محاكمة تثير جدلا واسعا في شرعيتها إنما تمتد لكل ما يحدث في البلاد منذ 3 يوليو، فمن يتحدث عن مرسي من معارضيه يبالغ في تحميله أخطاء مصر كلها منذ نشأتها، ومن يسب ويلعن يأتي بأقذع أنواع الشتائم والاهانات، ومن يهاجم يصل إلى مرحلة نزع الجنسية عنه وعن الإخوان واعتبارهم غير وطنيين ولا مصريين ولا مسلمين، ومن يفتي بشأنهم يحولهم إلى خوارج، ويتهم أبناء بعضهم بالإلحاد. يبدو لي أن كل واحد في هذا الفريق الاستئصالي يدخل في مزايدة وتنافس حامي الوطيس مع نظرائه في كيل الشتائم والاتهامات والأوصاف البشعة للخصم حتى يبدو أنه أبو الوطنية المصرية، ولا يُستثنى في ذلك طرف من دون الآخر ، فكما يفعل أنصار السلطة ضد الإخوان فإن أنصار الإخوان يفعلون ذلك ضد السلطة وأنصارها أيضا حيث يرتكبون نفس الجرم. المبالغة ليست في كراهية الإخوان فقط - علما بأن من يكرهونهم اليوم لم يكون كذلك عندما كانوا في الحكم - إنما المبالغة في الحب والعشق أيضا وخصوصا للفريق السيسي باعتباره الرجل القوي في مصر، فهم يتقربون إليه بأساليب تحمل من المبالغة مالا يحدث مع بشر أحيانا، ويكفي هنا مقال ذلك الصحفي الذي أتى فيه بأبيات شعر قديمة وأطلقها عليه فحولته من كونه بشرا إلى إلها يحكم كما يشاء فهو الواحد القهار. الهجوم المبالغ فيه لا يعني إلا إثبات الولاء للحاكم وليس بالضرورة أن يكون نابعا من اقتناع حقيقي بأن الخصم شيطان، ومثله "الوله" الزائد عن اللازم فهو نفاق وتزلف وتدليس رخيص. يُقال إن مصر والمصريين وسطيون فأين تلك الوسطية في ذلك الحب الزائد عن الحد والكره الزائد عن الحد أيضا، تلك الوسطية خدعة وليست واقعا بدليل ذلك الصراع الدموي المتأزم الذي يدمر البلاد ويوقف تحركها نحو المستقبل والبناء فلو كانت هناك وسطية حقيقية لكان حصل التقارب والتحاور وحل الأزمة. مثل هذا السلوك يعكس الخشية من قول كلمة الحق ومايمكن أن يترتب عليها وهو سلوك لا ينمو إلا في ظل الاستبداد والقمع فقط أما في ظل الحرية فإن حق الاختلاف العلني قائم دون أضرار لذلك تكون مجتمعات الحرية صحية وعفية. أكثر ما أخشاه في هذا اليوم أن يسيل المزيد من دماء المصريين بغض النظر عن هوياتهم السياسية ذلك أن تهديدات وتحذيرات الداخلية مبالغ فيها أيضا وكأن هناك جيشا معتديا سيغزو مصر لمنع المحاكمة، ففي ظل تلك الأجواء تكون الأيدي سريعة في إطلاق النار في استهانة واضحة بحياة المصريين، وفي مناسبات سابقة سبقتها تحذيرات مماثلة كانت النتيجة سقوط أعداد كبيرة من القتلى ليتحول مزيد من البيوت إلى مآتم. لا تروجوا لمسألة محاولة إفساد المحاكمة على غرار كلام سابق عن محاولات إفساد فرحة المصريين بالعيد وبنصر أكتوبر ليكون ذلك ذريعة لإيقاع ضحايا خصوصا وأن منطقة المحاكمة تحولت إلى ثكنة عسكرية يستحيل على قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية الاقتراب منها. اعيدوا الاعتبار لحياة المصري ودمائه وكفى استرخاصا لها. اعيدوا الاعتبار للوسطية المصرية في التأييد والرفض وفي الحب والكره. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.