قبل ما يزيد عن قرن من الزمان وقف الزعيم الوطني أحمد عرابي ومعه حشد من ضباط الجيش وأبناء الشعب المصري أمام قصر عابدين ليردوا على الملك الذي رفض مطالبهم بحجة أنه ورث هذه الأرض عن اجداده، وأن الشعب المصري ما هو إلا عبيد احساناته، لكن رد عرابي عليه كان قاسيا وظل حكمة ترددها الأجيال جيلا بعد جيل " لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم". مساء أمس وفي ذكرى مرور قرن على وفاة الزعيم أحمد عرابي خرج أحفاده ووقفوا في نفس المكان ليرددوا نفس الشعاروسط حصار أمني خانق منع عشرات بل مئات المواطنين من الإنضمام للمتظاهرين الذين نجحوا بشق الأنفس في الوصول إلى اقرب نقطة مقابلة لباب القصر بعد أن فرضت قوات الأمن أطواقا حديدية على كل الشوارع والمداخل المؤدية للقصر، وحشدت مئات بل آلاف رجال الأمن لمنع الجماهير من الوصول إليه، حيث كان نصيب كل متظاهر مايزيد عن مائة رجل أمن بين ضابط كبير أو صغير أو مخبر أو جندي أمن مركزي. لم تفلح كل تصريحات مؤسسة الرئاسة وكبار المسؤولين في تبديد قناعة الناس ان هناك مشروعا حيا لنقل السلطة أو لنقل لتوريثها لنجل الرئيس، فالناس تدرك جيدا البون الشاسع بين التصريحات القولية وبين الأفعال على الأرض التي تشي جميعها بأن مشروع التوريث يمضي قدما في طريقه محاولا حشد تأييد شعبي عن طريق لجان عشوائية أنشات بمباركة الحزب الوطني ، وحشد تأييد دولي كانت صورته الأوضح في اصطحاب الرئيس مبارك لنجله في زيارته الأخيرة لواشنطن لحضور انطلاق جولة المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو ملف بعيد كل البعد عن نجل الرئيس، ولذلك لم يجد المراقبون والمتابعون من تفسير لمشاركة النجل سوى الحصول على دعم ومباركة البيت الأبيض. حين بدا الحديث عن مشروع للتوريث قبل نحو ست سنوات قال الرئيس مبارك للإذاعة المصرية في 2004 إن ما يقال حول التوريث في مصر شائعة ألفها البعض وصدقها ، وأن ما يدور حول التوريث كلام فارغ ، وأن التوريث إذا كان قد حصل في بلد ما ( يقصد سورية) فلن يحدث في مصر، وردد كبار قادة النظام المعاني ذاتها ، لكننا فوجئنا بتعديل للدستور في العام 2006 ظاهره الرحمة وباطنه العذاب حين تحدث في المادة 76 عن انتخاب رئيس مصر بالإقتراع المباشر بين أكثر من مرشح ثم عاد ليقيد هذا الحق ويجعله عمليا محصورا في شخص نجل السيد الرئيس، وذلك بنصه على ضرورة حصول أي مرشح مستقل على توكيلات من 250 عضو مجلس شعب وشورى ومجالس محلية للمحافظات من أكثر من عشر محافظات وهو مالم ولن يتوافر سوى للحزب الوطني الذي يؤكد بصيغ مختلفة أن مرشحه للرئاسة هو الرئيس مبارك أو نجله، أما الحديث عن حق قادة الأحزاب الممثلة في البرلمان في الترشيح فإنه حق صوري أيضا كذبه واقع الإنتخابات الرئاسية الماضية حين تم حبك قضية جنائية لرئيس حزب الغد أيمن نور كما تم تدبير إنشقاق ضد رئيس حزب الوفد نعمان جمعة رغم أنها لم يمثلا خطرا كبيرا على مرشح الحزب الوطني وهو الرئيس مبارك، ودع عنك بقية المرشحين الحزبيين " العرائس" من عينة أبو طربوش الذين يترشحون للرئاسة ليمنحوا صوتهم لمرشح الحزب الوطني. إذا كان السيد جمال مبارك يريد حقا الترشح في مواجهة منافسين أقوياء فليوجه حزبه لتعديل المادة 76 من الدستور بحيث تفتح المجال لمن يشاء من المصريين الترشح دون قيود تعسفية، مع إعادة الإشراف القضائي الكامل على الإنتخابات، ولا يزعمن أحد من دهاقنة النظام أن الوقت ضيق لإجراء أي تعديل دستوري، فالوقت بيد السلطة دائما تتصرف فيه على هواها، تمده حين تشاء وتقصره حين تشاء، وتستطيع أن تؤجل الإنتخابات حتى تعديل الدستور إن أرادت، وتستطيع أن توفر كل الأجواء المناسبة لعملية إنتخابية نزيهة، لكن أين هي الإرادة؟!