في عام 1995 وبعد أول محاكمات عسكرية للإخوان المسلمين في عهد مبارك وبعد سنوات طويلة من انقطاع فكرة المحاكمات العسكرية وأحكام الإعدام منذ عام 1965 كتبت ورقة بحثية (لم تكن للنشر وقتها) بعنوان: الإخوان المسلمون والنظام المصري، معادلات الصراع والبحث عن مسار. وكان السؤال الأساسي الذي حاولت الورقة الإجابة عليه: هل يهدف النظام للقضاء على جماعة الإخوان (أشخاصا- تنظيما- شبكة علاقات) أي الدخول في معركة إلغاء الوجود السياسي؟ أم يهدف للحد من نشاط الجماعة وتحجيم قدراتها في المجتمع؟هل هي معركة اجتثاث واستئصال أم معركة تحجيم؟ وانتصرت الورقة للخيار الثاني وبنت عليه كل تصوراتها للتعامل مع المرحلة ومقتضياتها وأساليبها. وأكدت الورقة على أن فكرة اجتثاث أو استئصال الإخوان من المجتمع المصري فكرة عبثية لا يمكن تنفيذها على أرض الواقع لاعتبارات أربعة لا زالت صالحة للبناء عليها. وأكدت الورقة على استراتيجية نجم الدين أربكان والاختيارات السياسية والحركية التي تبناها في التعامل مع المؤسسة العسكرية التركية ذات العلمانية الشاملة بتعبيرات الدكتور المسيري عليه رحمة الله، حيث كان تدخل عسكر تركيا له مسوغ من الاعتبارات الدستورية حيث دور المؤسسة العسكرية هو حماية العلمانية الأتاتوركية وهي علمانية معادية لمطلق الدين، وليست محايدة معه، ومن هذا المنطلق ما كانوا يسمحون بأي مظهر من مظاهر التدين في رقعة الحياة العامة. فكان أربكان وحزبه وعبر الانتخابات الحرة النزيهة يفوزون بنسب كبيرة تسمح لهم إما بالمشاركة في تشكيل الحكومة أو رئاسة الحكومة ذاتها، فيقوم الانقلاب العسكري الصرف بلا أي مسوغ من غطاء شعبي أو فشل على مستوى الأداء الحكومي أو دعم من قوى إقليمية ودولية، (وهذا ملمح مفارق تماما لما حدث في الحالة المصرية). ويعتقل أربكان ورموز حزبه بل ويُحَل الحزب، فيقوم أربكان باستيعاب عملية الانقلاب عن طريق عدم مواجهتها أو استنزاف طاقته في مواجهات محكوم عليها بالفشل، ثم تهدأ الأمور وتتم الإفراجات تباعا ويقوم أربكان بتأسيس حزب جديد (حزب النظام الوطني، ثم حزب الخلاص الوطني، ثم حزب الرفاة ثم حزب الفضيلة) ويعاود الكرة وهو لا زال في الملعب ويعمل على تمتين العملية الديمقراطية والحفاظ على استمرارية العمل الإصلاحي، وعندما ضاقت مرونة أربكان وحالت دون تطوير العمل تجاوزه بعض تلاميذ وأصحابه مثل أحمد داوود أغلو (مؤسس التجربة الإصلاحية التركية بعد أربكان) ووصلأوردغان إلى سدة الحكم (حيث تركيا نظام برلماني رئيس الحكومة فيه هو الرئيس الفعلي للدولة) وعبر إنجازات اقتصادية كبيرة واستثمار بيئة الاتحاد الأوربي ورغبة الشعب التركي في عضوية كاملة فيه، مع بعض الموائمات السياسية أو حتى التنازلات الشكلية ليس أقلها إعلان علمانية الدولة، والفصل الجدي بين الأبعاد الدينية والاعتبارات السياسية في إدارة شئون الدولة. ونجح أوردغان في تأسيس طفرة اقتصادية ضاعفت معدل دخل الفرد التركي مرات عديدة مما عمل على اتساع قاعدة مؤيدوالنظام خارج دائرة التيار الإسلامي (وهذا ما أعتبره النجاح الحقيقي لتجربة التركية). هذا هو النموذج القياسي الذي كان يتغنى به الإخوان وكانوا يطمحون إلى السير على دربه، بل وكانت دعايتهم الأساسية أنهم قادرون على تحقيق نهضة شاملة على غرار تركيا. والنموذج التركي إلى الآن نظام نجح ضمن بيئته الحضارية والسياسية والاجتماعية وهو نموذج قياسي يمكن الاستفادة منه ومن أبعاد حركته السياسية والاجتماعية وما حقق من انجازات على مختلف الصُعد خاصة على الصعيد الاقتصادي وفي فترة محددة هي عشر سنوات هي مدة حكم أوردغان. وأمامنا الحالة المصرية على بعض المفارقات والاختلافات، ما حدث حدث وإما أن نعترف به ونجاول أن نجيره ما استطعنا إلى ذلك سبيلا لمصلحة الوطن (الذي هو أكبر من الجماعة ومن التيار كله) وإما أن ننكره ونصطدم بالجدار الصَلْب ويستمر سيل الضحايا في السقوط. الإنكار المحض لا يخلق واقعا ولا ينفي واقعا من الوجود، صحيح أن تيار الرفض معه أصل شرعية (كسلطة منتخبة) وصحيح أن الاعتراف بواقع 3 يوليو يمنحه شرعية سيظل في مسيس الحاجة إليها، لكن في تاريخ الدول ما وجدنا باطلا في العالم كله كدولة الاحتلال الاسرائيلي، لكنها تجاوزت قضايا الشرعية والاعتراف وأهملتها وسارت في طريق الاستيطان وفرض الأمر الواقع وخلق الحقائق على الأرض. ومع كل هذا الباطل منذ التأسيس والممارسة لم تؤثر قضية الشرعية ولم تلغ وجود دولة الاحتلال، بل نمت وتوسعت وفرضت شرعية السلاح وشرعية القوة. فالسلطة الشرعية لا تمنح اعترافا لمغتصب السلطة أو الانقلاب (سمها ما شئت) لكنه بالمقابل يمنحها مساحة أوسع للحركة، وممكن أن يضيق عليها الحركة الخناق، ويضطرها إلى أضيق الطريق وهو طريق العنف، وإذا ألجأ نظام حركة اجتماعية إلى العنف فمعناها أنها أوجدت مبرر التخلص منها عنفا، وهو أحيانا لا يحتاج إلى مبرر لكن المبرر يضفي على عنفه شرعية. وكما أن الاعتراف لن يمنحه شرعية كاملة، فالإنكار لن يسلبه وجودا متعينا وسلطة فعلية وواقعية، ومع مرور الزمن يخلق لنفسه شرعية ولو متوهمة أو مظنونة ولو دون أساس حقيقي من رضا الناس واختيارهم. الوضع معقد ومعيار الاختيار ليس ما نرضاه بل ما يمكننا: كحركة ومجتمع ودولة أن نتحمل عواقبه. وغالبا النصر حليف من يملك رؤية واستراتيجية ويملك أدوات النجاح على الأرض، ويملك تفعيل هذه الأدوات تفعيلا حقيقيا. ولنتجاوز اللحظة الراهنة والتفكير القانوني والنص النظري هناك واقع متعين يفرض شيئا من التنازلات وشيئا من ديناميكية الحركة مع واقع معقد وسريع الحركة وبحركته يخلق حقائق على الأرض، وهذه الحقائق على الأرض تمنح مغتصب السلطة نوعا من الشرعية بالتقادم وظهور أجيال جديدة لم تر سواه حاكما، أقول تمنحه بعض الشرعية ولو كانت شرعية متوهمة أو مظنونة ولو دون أساس حقيقي من رضا الناس واختيارهم. إن تجارب المجتمعات أثبتت نجاح استراتيجية فوز– فوز، كما أثبتت أن استراتيجية فوز- خسارة، أو استراتيجية خسارة - خسارة لا تحقق شيئا على الأرض ولا تغير الحقائق ولو كانت صورية. إن نمط تفكير إما أو لا ينتج خيرًا، ولا يخلق بدائل واختيارات أمام متخذ القرار في الحركة الاجتماعية والسياسية. ولأن الحياة ليست أبيض وأسود، والناس ليسوا ملائكة أطهار ولا شياطين أشرار، كذلك البدائل والاختيارات السياسية والاجتماعية ليست جنّة ونار بل درجات ودركات، ومراحل واختيارات، وموائمات ومناسبة، ومقاصد ومآلات، واعتبارات وصحيح وأصح، وخطأ وأفدح خطئا، وأنسب وأمثل وأفضل، وكلها مراحل تفكير وتدبير. وليس العاقل الذي يعرف الخير والشر بل العاقل الذي يعرف خير الخيرين وشر الشرين كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية. ثغرة في الجدار الصلب أو في الطريق المسدود هو هدف هذه المقال. واقتراح مجموعة من البدائل والخيارات غير الانتحار (أو حتى الاستشهاد) أو التوقيع للسيسي على بياض لمدة عشرين عاما قادمة حتى تقوم ثورة حقيقية على نظام وأفكار وقيادات ومكونات اجتماعية وسياسية. لا تدفعوا الناس أن يكون السيسي هو البديل الوحيد، ولا تساهموا في جعله المخلص والمنقذ في حالة الفوضى. وكما يقول سفيان الثوري العلم عندنا الرخصة من ثقة أما التشديد فيحسنه كل أحد. أخر كلام: ما أسهل المزايدة، وما أسهل رفع الشعارات، وما أسهل التضحية بدماء الآخرين، وما أسهل صياغة تصورات نظرية لا تملك إثباتا في عالم الواقع. المشكلة أننا في واقع كثرت نائحاته وقلّت ثكلاه.