حقق ياسر رزق رئيس تحرير "المصري اليوم" مكسبًا مهمًا بانفراده بأوّل حوار لصحيفة مصرية وعربيّة مع الفريق أوّل عبد الفتاح السيسي النائب الأول لرئيس الوزراء وزير الدفاع والإنتاج الحربي. الصحيفة الأولى التي حاورت السيسي كانت "الواشنطن بوست" الأمريكية في رمضان الماضي. لكن هذا المكسب لياسر شخصيًا ولصحيفته يتبدّد اليوم بثلاث دقائق تسريبات في ثلاثة فيديوهات من الجزء الذي لم ينشره في حوار الساعات الأربع. وواضح أن ما لم يُنشر من الحوار ويحتفظ به ليستفيد منه في المستقبل - كما قال لمنى الشاذلي - أكبر كمساحة زمنيّة، وأهم فيما يتضمنه من آراء ومواقف للسيسي عما تم انتقاؤه ونشره في الحلقات الثلاث، علمًا بأن ما نُشر يتضمن أيضًا أسرارًا وتفاصيل ووقائع ومواقف مهمّة. أتوقع أن تكون الدقائق الثلاث المسرّبة جلبت عدّة متاعب وخسائر لصاحب الحوار حتى الآن وهي: - اهتزاز ثقة السيسي شخصيًا والمؤسسة العسكرية فيه كصحفي كبير مؤتمن على ما يحصل عليه من معلومات ولقاءات مهمّة مع القادة. - اهتزاز ثقة ياسر في الدوائر المقرّبة منه في الصحيفة، وانتقال هذا الاهتزاز إلى الدوائر العائلية المقرّبة منه أيضًا إذا صحّ ما نشرته صحف منافسة تنتهز اللحظة لتتقرّب هي أكثر من المؤسسة العسكرية. - بدا ياسر من خلال أسئلته ومداخلاته في الحوار الطويل المنشور محافظًا على دوره المهني فقط، لكن التسريبات كشفت عن وظيفة أخرى وهي ممارسة دور سياسي توجيهي وتحريضي أيضًا، فقد ظهر كما لو كان جنرالاً يُزايد على الجنرالات الحقيقيين، وهذا الأمر يعتبره البعض انتهاكًا لدور الصحفي المتجاوز لمهنته في البحث عن الحقيقة إلى دور اللاعب السياسي المُنحاز. قلت في إحدى الفضائيات إن هذا الانفراد يرجع إلى سببين، الأول: العلاقة الخاصّة لرزق مع المؤسسة العسكرية، والثاني: مهنيّة جريدته. لكني سُئلت، هل تلك الجريدة تلتزم فعلاً بالمهنيّة ؟!. قلت، بالطبع لا. فالإعلام المصري كله - مكتوب ومسموع ومشاهد - منحاز إلى جانب سلطة الحكم، وهو لا يلتزم بنسبة كبيرة بالمعايير والقيم المهنيّة والأخلاقيّة للأداء، ولا بميثاق الشرف الصحفي، والمشكلة ليست في الانحياز وفقدان الموضوعية، فهذه مثالية لن نجدها متحققة بشكل كامل في أي منظومة إعلامية في العالم، لكن المشكلة في غياب العدالة، أي يكون الإعلام - مثل القضاء - عادلاً مع طرفي المشهد السياسي: السلطة، والمعارضة، بأن يُفسح المجال لوجهة النظر الأخرى لنقرأ لها، ونسمع منها، ثم يحكم الجمهور بنفسه، ويحدّد مواقفه، لكن الحاصل أن الطرف الآخر وهو اليوم الإخوان وحلفاؤهم وكل معارضي السلطة لا وجود لهم في الإعلام حتى في الإعلام الرسمي الذي يفترض أنه ملك الشعب يموّله من جيبه، ومن ضمن هذا الشعب ذلك القطاع المُعارض أيضًا، وعملية "الشيطنة" للخصم السياسي لا تتوقف، فهي تدور بأقصى سرعة في محكمة الإعلام التي لا تعبأ بالمتهم ولا بدفاعه عن نفسه، بل تصدر أحكامًا بالإدانة نهائية فورية، من أول البرنامج إلى نهايته، ومن أوّل صفحة بالجريدة حتى الأخيرة لا حديث إلا عن الإخواني الشيطان، ولا هدف إلا الربط بينه وبين العنف والإرهاب والجرائم والكوارث التي تمرّ بها البلاد في استباق لحكم القضاء أو قرارات برلمان منتخب بنزاهة، فمثلاً لو تعثر مواطن في شارع ستجد من يلقي باللائمة على مرسي رئيس الشياطين لأنه لم يصلح الشارع خلال حكمه، أو أن أنصاره من الأبالسة وضعوا الحجر حتى يتعثر فيه المواطنون لإفساد حياتهم وفرحتهم بالمناسبات والأعياد!. هذا الأداء الإعلامي يكون ملائمًا لبلدان محكومة بنظم شمولية لا تعرف إلا نمطًا واحدًا من الملكية لوسائل الإعلام الذي تحتكره وبالتالي يكون هناك خطاب إعلامي أحادي كما كان في مصر خلال العهد الناصري وفترة من السبعينيات، لكنه يتصادم مع واقع مصر اليوم بعد تعدّد أنماط الملكية وبعد ثورتين جوهرهما الحريات والديمقراطية، فالحاصل أن الإعلام يشهد بإرادته أو بتوجيهات ردّة عن مساحة الحرية والتنوّع التي بدأت منذ العشرية الأخيرة لمبارك وتوسعت بعد 25 يناير ووصلت مرحلة غير مسبوقة في عهد مرسي رغم ما صاحبها من تجاوزات وصلت حدّ الفوضى. فهل يفترض أن تتقدّم المنظومة الإعلامية أم ترتدّ للخلف بغض النظر عن تلك الأزمة العنيفة مع تيار الإسلام السياسي ذلك أن شن حرب إعلامية قاسية بموازاة الحرب الأمنية ضدّ اليمين الديني سحقت معها كل القيم المهنية التي يجب أن يصرّ الإعلام عليها في أدائه ويكرّسها لمصلحته هو إذا كان يريد أن يدخل عصرًا جديدًا من المهنية بمقاييس عالمية وتحقيق الاستقلالية ليخرج من عباءة كونه تابعًا لسلطة الحكم خادمًا لأهدافها على طول الدوام ليكون خادمًا للقارئ وولاؤه للوطن الأوسع والأبقى من السلطة الحاكمة المتغيّرة. "المصري اليوم" كصحيفة مستقلة مثل بقية المنظومة من صحف مستقلة أخرى وحزبية وقومية لا تلتزم بشكل واضح بالمعايير المهنية للممارسة الصحفية، ونتائج تقرير الأداء الوحيد للممارسة للصحف الأساسية في بداية 2013 كانت صادمة علمًا بأن الأوضاع في ذلك الوقت لم تكن بما هى عليه اليوم من أزمات وعنف ودماء وإقصاء، مع ذلك فتلك الصحيفة تعتبر الأقل سوءًا بين الأسوأ، ورغم ذلك فيجب تشجيع هذا الجانب الإيجابي فيها حتى يتزايد التوازن، وتقترب من الموضوعية، وتخدم الرسالة الإعلامية ولا تفتئت عليها. ياسر رزق متسق مع ذاته حيث لا يعتبر نفسه صحفيًا فقط باحثًا عن المعلومة الصادقة والحقيقة المجرّدة وكاتبًا للرأي الموضوعي وصانعاً لمضمون صحفي يومي يلتزم بقيم ومعايير مهنيّة، إنما يعتبر نفسه طرفًا ولاعبًا سياسيًا في الساحة ويجند نفسه في خدمة الطرف الذي انحاز إليه، وهذا حقه، لكن من يريد أن ينتقده هو وكل من يسير على نفس الطريق سيقول إن هناك مخاطر وأضرارًا من الخلط بين الرسالة الإعلامية السامية - التي لها هدف وحيد وهو إجلاء الحقيقة - بالرسالة السياسية التي تعتمد في غالب الأحيان على الميكيافيلة وهي أن "الغاية تبرّر الوسيلة"، وعندما يظهر ذلك الخلط والتداخل والتحريف والتلوين في المضمون اليومي أو الأسبوعي للصحيفة فإن الضرر سيقع في التأثير على القارئ وتوجيهه وجهة سياسية معيّنة خصوصًا عندما لا يكون الوعي في المجتمع قد بلغ درجة تجعله قادرًا على الفرز بين المضمون المحايد وبين المضمون المنحاز. في تسريبات شريط الحوار كان رزق لا يسأل ولا يستوضح ولا يستفسر فقط إنما كان يفكر ويقترح ويشارك في التخطيط للمستقبل السياسي للسيسي وما يجب أن يفعله والمحاور التي يتحرّك فيها، بل تجاوز ذلك إلى الهجوم على قيادات سياسية بارزة وبأسلوب غير لائق وتحريضي مثل المرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح، لم يكن حوارًا بين الرجل القوي والحاكم الفعلي للبلاد وبين صحفي بدرجة رئيس تحرير إنما كان أشبه بغرفة عمليات يشارك هذا الصحفي في نقاشاتها ويقدّم خبرته فيها إلى حد أنه يزايد على السيسي نفسه في بعض المواقف. إذن هذه إشارات مهمّة ولها دلالاتها في تحديد المواقف الشخصية حيث تنعكس حتمًا على توجهات وانحيازات الجريدة وتجعلها تفتقر للعدالة والنزاهة المهنيّة، وهنا يصعب فصل الموقف الشخصي عن صياغة الرؤية التحريرية العامّة. إذا أضفنا لذلك أن رزق صاحب الانتماء الناصري المتصادم مع الإسلام السياسي، والناصريون أكثر التيارات سعادة بالإطاحة بالإخوان من السلطة، بعد أن تبيّن صعوبة أن يطيحوا بهم في تنافس انتخابي حرّ، فإنه مرة أخرى الخلط بين المهني والسياسي سيجعل المهنية تتراجع حيث يتحوّل الصحفي إلى ناشط سياسي يفقد موضوعيته وحياده وعدالته، ولا يكتفي بإعلان رأيه فقط، إنما يكون جزءًا من آلة الحشد والتعبئة في عودة لفلسفة عمل وحكم الأنظمة الشموليّة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.