مصر حبلى بالأحداث والمعركة قادمة لا محالة، إنما يؤجل وقوعها سيطرة الاستقطاب بين الإخوان والسيسي. فحالة الاستقطاب الحاد هذه تختزل المسافة بشكل مشوه، ولا ترينا الأبعاد الحقيقية للأزمة. المعركة قادمة لأن من يريد أن يشكل مستقبل مصر على مقاسه أقل بكثير منها، هو يريد مناصب تفصيل على مقاس بالغ الضآلة. واستمرار وضع مصر على هذه الحالة شبه مستحيل حتى إذا توفر له من يدفع فواتير مغامراته، وحتى إذا توفر له من يغطي عجز سياساته وفشل إدارته. فالدول (كما أكرر دائما) ليست جمعيات خيرية، هي كيانات مصلحية بالغريزة وبالفطرة. الحل الأمني ليس حلا على الإطلاق، هو محاولة لخلق حالة من السكوت الوهمي والصمت المُتَحَكَم فيه. هي ليست حالة طبيعية ولا يمكن في بلد مثل مصر -تاريخا وموقعا وسكانا وحركة وتفاعلات مجتمع- أن تدار بقبضة حديدية، وعصر عبد الناصر ولى ولن يعود، وما نفع في عهد عبد الناصر (إذا كان نفع) فلن ينفع في عصر مختلف ومع شبيه عبد الناصر وليس عبد الناصر نفسه. هذا زمن مختلف وشباب مختلف بل وبشر مختلفين،هذا زمن انفتح فيه العالم على بعضه وتلاشت الحدود بشكل جعل المفكر الفرنسي برتراند بادي يتكلم عما أسماه استهواء السيادة أو سلبها. مستحيل أن يستمرالوضع في مصر، لا من باب السياسة ولا من باب الاقتصاد، وليس ثمة إلا مخرجا وحيدًا هو المصالحة الوطنية التي تنتهج سياسة عفى الله عمى سلف ولنفتح صفحة جديدة وأن تتكفل الدولة بكل الضحايا والدماء باعتبارها دماء أريقت في زمن فتنة. حل يراه الناس بعيدا ونراه قريبا لأن البديل غير متصور وغير محتمل لمن عنده قدرة على مد خط الواقع الحالي على استقامته شهور وليس سنين. ستفشل القبضة الأمنية كما فشلت في كل بقاع الدنيا، حالات وتجارب درسناها وكنّا منها على مرمى رصاصة. وسيفشل الحل الأمني، ولن يفيد الفريق السيسي فريق الهواة الذي يخدّم عليه (باستثناء الدكتور مصطفى حجازي فلا زلت أرى فيه بقية من خير ومن رجاحة عقل تدله على انسدادالأفق، فما تم متاهة وليس خريطة مستقبل). تجاوزوا الإخوان وتجاوزوا قضايا الشرعية ومرسي، أنتم لم تقدموا لمصر جديدا. صحيح أن مصر كانت على وشك الغرق في عهد مرسي،أما أنتم فقد أغرقتموها بالفعل، إغراقا حقيقيا لا متوهما ولا ظنا، أنتم أغرقتموها يقينا لا شك فيه. نعم قسّم مرسي قسمين البلد فقمتم أنتم بشقها نصفين (انتوا شعب وإحنا شعب، ويلطخ الحجّار تاريخه الفني الطويل بهذا الهراء، ويخسر جمهورا لن يعيش حتى يجمعه ثانية). أنتم حتى لم تلتزموا بما أسميتموهخارطة المستقبل فجعلتموها متاهة، وكأنكم تريدون أن تثبتوا أنكم مجرد ثورة مضادة لثورة يناير، فمشيتم بأستيكة على كل منجزاتها فمحوتها فعلا لا قولا. إنكم تسيرون على نفس طريق الفشل الذي سار فيه الدكتور محمد مرسي وحزبه وجماعته حذو القذة بالقذة: هو خسر كل حلفائه عندما لم يف بأي من تعهداته وأنتم تفعلون كذلك، هو أراد فريقا من الأتباع (لا تجادل ولا تناقش يا أخ علي) وأنتم تفعلون كذلك لا تريدون سوى قطيعا من الهتيفة. (إن الصدور والأكتاف العارية التي تشرّفت بالتصوير مع سيادة الفريق السيسي في احتفالات أكتوبر لطخت تاريخ العسكرية المصرية المشرّف). الدكتور مرسي كفّر مخالفيه وأنتم تخونون من عارضكم وتجعلونه طابورا خامسا، وكلاهما حكم بالإعدام إما الديني أو الوطني. المعركة قادمة لا محالة لأنكم جمّعتم كل البارود وزرعتموه في جنبات الوطن ثم جلستم تلعبون بأعواد الثقاب، وأغلبكم كما قلت هواة، فالحريق قادم. أنتم تقامرون بمستقبل البلد ولن تَسْلَم لكم، هذا شعب ليس له كتالوج ولا تعرف متى يثور ومتى يقلب الطاولة على حكامه، هذا بركان لا تعرف متى ينفجر، هذا شعب أعيا الفلاسفة والمحللين النفسين. هذا شعب فيه من سمات البحور (أليس يقع على بحرين) تراه هاديا وديعا، وفجأة يزمجر ويهيج فيغرق من تجرأ عليه ومن أهانه. أنتم أهنتم الشعب (كما أهانه الدكتور محمد مرسي وحزبه). لقد تعاملتم أنتم وهو مع الشعب المصري كغنيمة حرب لم تخوضوها. أنتم بإعلامكم السيء تهينون الشعب المصري عندما تسمّون البلطجية: المواطنون الشرفاء. أنتم تفرضون على الناس معركة، لن تكون معركة الإخوان، ولا لأجل شرعيتهم المفقودة، جماعة وحزبا ورئيسًا. المعركة القادمة ستبدأ بعدما تهدأ خيل الإخوان وينجلي غبار مظاهراتهم، فكثير من الناس لا يريد أن يحارب معركة الإخوان ولا يسير في مظاهراتهم ليرفع أحدهم صورة مرسي فوق رأسه. لا تنخدعوا بمظهر الموج الهادي، الشعب المصري جبار،وكم أغرق من حكام ظلمة. المعركة القادمة ليست ثأرا للإخوان فهم من أتى لنا بالسيسي وبمحمد إبراهيم. المعركة القادمة ليست ردا على فض اعتصام رابعة، فكان بإمكانهم فضه، والتفاوض. إنما ردا لكرامة كل مواطن أهانه شرطي أو فرد قوات مسلحة أو بلطجي (والثلاثة إيد واحدة). ما رأيتموه في الشوارع على مدار المائة يوم الماضية هذه حركة الإخوان المعروفة والتي حفظتموها وتعرفون كيف تتعاملون معها إما قهرا أو سجنا أو حتى قتلا. أما حركة الشعب المصري عندما يثور فهذا شيء آخر لم ترونه ولم تعرفونه ولم تستعدوا له وليس في قواتكم من هو مدرب على مواجهته أو قمعه. لقد سننتم القتل ومن سن القتل قُتِل. المصالحة قبل فوات الأوان حتى لو كانت هناك بعض الخسائر، فخسارة جزء من الربح خير من خسارة كامل رأس المال. أخر كلام إن العقول والنفسيات التي حكرتها أزمنة مضت بمفاهيمها وأنساق تفكيرها وشبكات مصالحها وتحالفاتها لا يمكن أن تساهم في رسم معالم مستقبل لن تعيش فيه بالضرورة بحكم السن وحدود الطاقة الإنسانية. عن الأستاذ محمد حسنين هيكل طبعا أتكلم.