لم أعد أحصى عدد الرمضانات التى قضيتها خلف الأسوار فى سجون مصر ، و لكن ذكريات تلك الأيام لا تفارقنى مع قدوم شهر الصوم والبر والإحسان. فى أحد الرمضانات منذ حوالى 4 سنوات ونحن فى سجن المزرعة بطرة فى أعقاب أحداث استقلال القضاء الشهيرة التى تم اعتقال الالآف فيها، فوجئت قبل منتصف الشهر بأخى وحبيبى الدكتورالنابه إمام العدس ( ابن قريتى ناهيا) يدخل عنبر 2 بالمزرعة بطرة . استضفنا د. إمام فى غرفتنا وبعد أن التقط أنفاسه قصّ علينا سبب القبض عليه. وقبل أن تعرف السبب أعرفك أولاً عن بعض صفات إمام العدس، إنه شاب نشأ عصامياً، يتيماً، أنفق على تعليم نفسه بنفسه منذ نهاية المرحلة الإعدادية بالأزهر الشريف، وكان من أوائل كلية طب الأزهر ولكن التقارير الأمنية حرمته من التعيين فى وظيفة معيد ثم مدرس فأستاذ بكلية الطب، فتفوق حتى حصل على الزمالة البريطانية فى أمراض القلب والرعاية المركزة من لندن، والتحق بكلية أصول الدين فكان الأول دوماً على دفعته وحرموه من التعيين أيضاً بكلية أصول الدين. يتميز إمام العدس بميزات كثيرة، فهو يحفظ القرآن الكريم مجوداً وباتقان شديد فلا يكاد يخطأ أبداً أو يلحن أبداً، حفظه من الصغر فى الكتاتيب وحافظ على الحفظ بتلاوة القرآن دوماً ومراجعته فى رمضان فى صلوات التراويح والتهجد التى يصطف خلفه فيها الآلاف من أبناء قريتنا أو البلاد الأخرى لحلاوة صوته ودقة تلاوته ورقة أحساسيسه ومشاعره أثناء التلاوة. وقد رزقه الله القبول وحسن الحديث وطلاوة الكلام وقوة الذاكرة والحفظ فهو موهوب فى التدريس والشرح وقوة التأثير. سبب القبض عليه آنذاك، كان إصرار الناس على تقديمه إماماً لصلاة القيام، وعدم تخليه من حقه فى ذلك رغم تهديدات ضباط أمن الدولة له بعد استدعائه عدة مرات ، ليحاولوا إقناعه أو إرهابه بعدم للصلاة ، وعندما وجدوا منه الإصرار كان الحل عندهم هو اعتقاله شخصياً لبقية شهر رمضان لنتناوب الامامة فى عنبر 2 بسجن المزرعة فى طرة. هل يدرك ضابط أمن الدولة الذى يصدرمثل هذا القرار ويصمم عليه لدرجة اعتقال الإمام وترك المصلين المحبين له الملتفين حوله، أنه بذلك يفسد صومه ويبطل عمله ولا يحقق نتيجة مرجوة لأمن الدولة أو حتى لصرف الناس عن أمثال إمام العدس ؟ ما دفعنى للكتابة إلى هؤلاء الضباط هو أن هذه قصة مكررة الضباط هو أن هذه قصة مكررة ، إنها سياسة مستقرة لدى جهاز أمن الدولة تحتاج إلى مراجعة ومحاسبة. إنها سياسة بدأت بتأميم المساجد ثم تعيين مرشدين للامن بها يتم استعائهم بصورة منتظمة لامن الدولة ومنع الاعتكاف المشروع الا باذن الامن وتسليم صور تحقيق الشخصية للامن ثم المرور الدورى على المساجد ومراقبة خطب الائمة واستدعائهم ايضا لفترات طويلة للامن ثم نقلال عدم المتجيبيين منهم او عدم المتعاونيين ومنع كل صور النشاط كالكلمات والخواطر والاحاديث بل وحلقات القرآن مما ادى الى تجفيف المنابع واتجاه الشباب الى شبكة الانترنت للحصول على المعلومات الدينية مما جعلهم فريسة لمواقع اخرى تعلمهم صناعة القنابل وتفخيخ السيارات. تزداد تلك المراقبة شدة مع قدوم رمضان فأجد الأحباب من رواد المساجد والزوايا التى أتردد عليها ويقدمنى أهلها عند حضورى للإمامة، حسن ظن منهم، أو لعدم وجود من هو أهل للإمامة أو احتراماً لشخصى الضعيف الفقير، اجدهم فى حيص بيص، وأحياناً يسر لى بعضهم بأن المراقبة هذه الأيام شديدة، وأن المخبرين يحضرون الصلاة بالمسجد، ليراقبوا عمال المساجد ومقيمى الشعائر، وأن أمناء الشرطة يمرون عليهم بأوراق يحذرونهم فيها من شخصيات معينة أو السماح لأحد بالحديث دون تصريح، أو يهددونهم بضرورة المرور على السيد الضابط لأخذ التنبيهات المشددة، أو .. أو .. الخ. قد تظن أخى القارئ أن هذه مساجد ضخمة يرتادها الآلاف المؤلفة ولكنك تعجب عندما تعلم أنها مساجد صغيرة أو بالأحرى زوايا لا تتسع إلا لحوالى أربعين مصلياً عند الازدحام ، وأن روادها يعرف بعضهم بعضاً بالاسم والعنوان وكل تفاصيل الحياة، لأنها فى مناطق شعبية أو قرى ريفية ،ويا تعب كل من وظف وقته وجهده للإشراف على أحد تلك الزوايا فإنه يكون معرضاً للتليفونات التى تؤرقه فى سواد الليل وقبيل الفجر للتنبيه والتحذير والتهديد الوعيد من أن يتقدم فلان أوعلان لإمامة الصلاة أو أن يلقى أحدهم كلمة لتذكير الناس بفضائل رمضان أو أحكام الصيام أو الحث على الخيرات فى رمضان. يقف أحدهم معى عقب صلاة الفجر وهو فى أشد حالات الحرج ليقول لى : إنك لا ترضى لى الضرر، ولا ضرر ولا ضرار، ومساجد الله كثيرة وبيوت الله منتشرة و ... و ... وأقول له: يا أخى أن الذى يضر وينفع هو الله ولكن نظرات عينيه تخبرنى أنه يود لو انقطعت عن الحضور إلى زاويته أو مسجده خشية التعرض لأذى من أمن الدولة. هل يدرك هذا الجهاز الخطير أن لديه من المهام والقضايا ما هو أخطر بكثير من مجرد وقوف فلان أو إعلان إماماً للصلاة فى زاوية لا تتسع إلا لثلاثين شخصاً؟ هل يدرك هؤلاء الضباط أنهم بزرعهم الخوف والرعب فى قلوب الناس لن يحصدوا إلا الخسران والضياع؟ هل يدرك هؤلاء أنهم بتخويف الناس من الإخوان أو الدعاة لن يصرفوا المصليين عن حب الدعاة وحب الإخوان وحب الدين والمتدينين ؟ إنها سياسة فاشلة لن تحقق أمناً ولا أماناً، لأن اللصوص الكبار والصغار لا يترددون على بيوت الله. إنها أفعال صغيرة لا تصدر إلا عن الصغار، وليست من أخلاق الرجال هل هذه هى التعليمات فى ظل التطور الجديد الذى بشرنا به رئيس الوزراء عندما طالب البرلمان بمد حالة الطوارئ؟ هل إمامة الصلاة والحديث فى رمضان من أعمال الإرهاب أو تجارة المخدرات؟ إننى أتوجه برسالة إلى ضابط أمن الدولة فى نهاية طابور الضباط وإلى رئيس الجهاز الذى يتولى مسئولية خطيرة جداً، خاصة وان الجميع اليوم يدرك ان الموت يأتى بغتة ، وأن البروح المشيدة والصحة الوافرة والأمن المدجج بالسلاح لن يمنع ملك الموت من اقتحام الحصون والسير أمام الحراس وسلب الاراوح رغم الصحة والعافية. يجب مراجعة تلك السياسة الفاشلة التى تحمل مؤشرات خطيرة وتزرع فى الشعب سلبيات فظيعة. رمضان كريم يا أيها الضباط، فكونوا على مستوى رمضان..،ارتفعوا الى مستوى الاحداث وكونوا مسؤليين امام الله قبل رؤسائكم ، وتذكروا يوم تقفون امام الله (وقفوهم إنهم مسؤلون). لن تستطيعوا مهما أوتيتم من قوة أن تحرموا شخصاً من الصلاة فى بيوت الله ، أو أن تقتلعوا حباً زرعه الله فى قلوب العباد لشخص هنا أو هناك، لن تفسدوا علينا رمضان أبداً، فنحن لا ننازعكم على دنياكم ولامناصبكم ولكننا نتقرب إلى الله بارتياد المساجد وحضور الجماعات وشهود القيام، تحدثنا أو صمتنا، وصمتنا أقوى من حديثنا، كناأئمة أو مأمومين فالإمامة مسئولية وأمانة، وليست تشريفاً ولا تعظيماً لأحد. وأسعد لحظات الصائمين القائمين هى أن يصفوا أقدامهم فى الليل البهيم والناس نيام فى خلوة مع الحبيب يناجون ربهم بعيداً عن صخب الحياة ودسائس أمن الدولة وليس لكم علينا فى ذلك سبيل، بل المنة لله وحده الذى يصطفى من خلقه من يشاء، سبحانه هو الواحد القهار.