هناك حقائق لامفر من الاتفاق على قبولها حتى ننطلق إلى ما بعدها. الحقيقة الأولى، هى أن مصر لم تشهد فى أى وقت محاولة حقيقية مدروسة لإقامة نظام ديمقراطى ولكنها شهدت فترة نقاء الأمم الرسمية والرغبة الصادمة فى تلبية احتياجات الناس وحب مصر ورفعتها، مثلما شهدت فترة ارتفع فيها الشك حول أى نوايا تجاه هذه الأهداف، ولكننى أعتقد أن الدمار الذى لحق بمصر فى الداخل والخارج وخاصة تدمير بنية المجتمع وقاعدة القيم فيه هو أمر أقرب إلى العمد منه إلى العجز عن الإدارة. وإذا صح افتراض أن الدمار متعمد فإن المحاسبة حتمية والفرز مطلوب حتى فى هذه الظروف التى يمسك فيها المتهمون المحتملون بزمام السلطة والقوة لأن المسألة أخلاقية أكثر منها قانونية أو جنائية ولابد أن يعلم الجميع من تسبب فى كل هذا الدمار الذى جعل المجتمع المصرى متحفزاً فى حالة من التوتر السرطانى عبر عن نفسه بنوعية غريبة من الجرائم ووصل به الحال إلى ما يشبه المجتمع الذى تحدث عنه هوبز فى كتابه الشهير "التنين" الذى تطلب عنده حاكما يؤمن حاجاته ويصادر حرياته، كما تطلب عند جون لوك حاكماً يحكم المجتمع بعقد فصله مونيسيكو بعد ذلك بعقود هو العقد الاجتماعى قوامه القانونى واحترامه، ولكن الشعب المصرى لم يحصل على الحاجات أو الحريات معاً. ولايجادل فى ذلك إلا عدد ممن خانوا ضمائرهم لحساب جيوبهم ومنافع زائلة يضللون من أجيلها شعبهم ويبررون خطايا تاريخية وهم جزء أصيل منها ويحكمون على مصر بقدر حجم اتنفاعهم من هذه الحالة، ولذلك قال أحدهم ممن تبوؤا مقعداً أوسع بكثير من قدراته المتواضعة أنه يكاد يرى ثمار الإصلاح تنهمر على مصر فأدركت يومها أنه نهب منصبه غير المستحق ليقوم بدوره فى خدمة آلة الهدم والتدمير، يظاهره فى ذلك "الأكاديمى" الفذ الذى يبشر منذ سنوات بتصفية القضية الفلسطينية. الحقيقة الثانية، أن مصر بحاجة إلى إنقاذ، وأن كل ساعة تمر عليها تقربها من الهلاك، كما أن البعض ربط مصيرها بصراع السلطة حول الحاكم مما جعل العلاقة حتمية بين بقاء الحاكم أو فنائه وبين بقاء مصر المريضة أو مصر الزائلة. الحقيقة الثالثة، هى أن الحكم يبتدع أساليب إطالة العمر والاستمرار وليس فى برامجه حل المأساة التى خلقها للوطن ولا القنابل الموقوته التى زرعت فى راحلته، ومن ثم فإن من العبث الرهان على كرم النظام وأري@ أو تغيير شخوص مريديه لأن القضية تتعلق برؤية وفلسفة تحددت بالسلوك ويستحيل تغييرها. ولذلك فإن مطالبات النظام أو الضغط عليه أو انتظار ما تجود به الحدأة من كتاكيت أو أن تمطى السماء الملوثة أنهاراً عزبة مضيعة للوقت ومد لحبل اليأس من الخلاص من هذه الحالة التى لا أظن أن عليها خلافا من الجميع خارج دائرة المنتفعين الذين لايسمع لهم قول لسيطرة المصلحة على أقلامهم يترتب على ذلك الثقة المفقودة فى إمكانية إجراء انتخابات نزيهة أو غيرها من السبل الديمقراطية لتقرير مصير البلاد بلاهة لاتليق بالعقلاء فى هذا الظرف الدقيق. الحقيقة الرابعة، هى أن التعديل على وعى الشعب المصرى لم يعد محل شك، ولكن يجب حماية هذا الوعى وتحويله إلى سلوك منضبط، لأن انقلاب المجتمع بعد انهيار منظومة القيم ستكون حرب الكل فى الكل فى وقت يفر فيه المنتفعون والجناة الحقيقيون. الحقيقة الخامسة، هى أن المشهد المصرى موزع بين ثلاثة كتل: كتلة الحكم بكل أدوات الإعلام، والقهر، والقدرات المالية والاقتصادية للشعب المغتصبة لتوظيفها ضد مصالحه، والكتلة الشعبية المنهكة واليائسة والتى تغلى بالخنق والرغبة فى التغيير، وهى الضحية وصاحبة المصلحة فيه وهى التى تتعرض للابتزاز والظلم والقهر، وأخيراً كتلة المثقفين والسياسين ومن يلحق بهم، ومن بينهم طبقة من السياسيين الذين أفرزتهم البيئة الفاسدة والتى تمثل بثورة كريهة فى وجه مصر الذى كان متفائلاً وصبوحاً وسوف يعود كذلك. هذا الخليط العجيب اصطد بحائط إغفال السلطة واستخفافها بل وتطالب قيادات السلطة بالهجوم عليه وتصفيته واتهامه بأنه خاو من أى إضافات وضوضاء مزعج لكنه لايفيد، رغم أن السلطة بكل ماتتمتع به من صلاحيات مطلقة ومهلة زمنية تنيف على ثلاثة عقود كان يتعين عليها أن تجنب البلاد ما تعانيه وأن تتعاون معها النخبة فى ذلك، ولكن السلطة اختارت إبعاد الكفاءات عمداً وتقريب الصالحين للمساهمة فى مشروع تدمير مصر والتعمية على المجتمع والكذب على الحقيقة التى فضحتها وقائع الحياة وكذلك التقارير الدولية التى تضع مصرنا الحبيبة فى القاع وهم لايزالون يرددون فى عبث مقيت أن مصر لاتغيب عنها شمس الإبداع والدور العالمى. فى هذا المشهد الذى يتلبس فيه النظام جسد الدولة ويقصى كل ما يحاول الإنقاذ ولا يعبأ بأنات المجتمع بل ربما يسعد بهذه الأنات ومع ذلك يصر على أنه يسعى إلى ود الشعب ويرجو دعمه له فى انتخابات رأينا صورة لها فى مجلس الشورى، كيف يمكن تحقيق رغبة الشعب فى التغيير وأمل مصر فى الإنقاذ ؟ الانقاذ عادة كان يتم بطرق ثلاثة كلها فى مصر مغلقة. الطريق الأول، هو الانقلاب العسكرى. الطريق الثانى، هو ثورة الشعب واكتساحه حصون السلطة وانضمام الجيش والأمن مع قاعدته الشعبية الطبيعية ضد النظم التى تحصنت بالقوة وداست على القانون وتحدت إرادة الأمة وفرضت أمراً واقعاً ينتهى بالبلاد إلى الدمار الكامل. وقد حدث ذلك فى أكثر من 20 بلداً. الطريق الثالث هو الاحتكام إلى صناديق انتخابات نزيهة وحرة فى عملية انتخابية صحية يتاح للشعب فيها العلم بالمرشحين وبرامجهم والحرية فى اختيار ما يشاء فيصلح البرلمان ثم تصلح من بعده الحكومة والقضاء وتنصب مرة أخرى دولة كل المصريين وليس دولة مجموعة لا ترى لغيرها حقاً فى هذا الوطن. من الواضح أن كل الطرق فى مصر مغلقة ولكنى أظن أن أكثرها قرباً من المصلحة هو الإصرار على الانتخابات، خاصة وأن السلطة تتظاهر بأنها حريصة على نزاهة الانتخابات والعملية الانتخابية، ونحن نقدر أن تطبيق مثل هذه النزاهة حتى رغم صور الفساد التى يشيعها الحزب الوطنى لسلب إرادة الناس أمام العوز والحاجة بعد إفقار معظم طوائف المجتمع لن تتيح ظهور هذه السلطة على الساحة مرة أخرى وهو تحدى أطرحه على الحكومة الوطنية بكل أطيافها. لا مفر من فرض نزاهة الانتخابات وليكن هم كل من ينتمى إلى حركة تحرير هذا الوطن واستنقاذه هو البحث فى كيفية فرض إرادة المواطن والتعبير عنها بحرية دون طلب أى ضمانات من سلطة أدمنت تاريخيا التزوير وتستخدم الانتخابات كوسيلة لإضفاء الشرعية على وجود غير مشروع وسياسات مدمرة لهذا الوطن. وأخيراً، فإن انحياز المجتمع إلى النخبة لفرض الديمقراطية بالطرق الحضارية هو الخيار الوحيد لبناء نظام يجد فيه الجميع منالته وتستعيد به مصر كرامتها وعافيتها بل كل عقود الشقاء.