لا نريد أن نحمل الأمور أكثر مما تحتمل أو نختزل الظواهر في سبب واحد ونحيل إليه وحده ظهورها وتضخمها ، كأن نُرجع مثلا انتقال ظاهرة العنف السياسي من أقصى جنوب مصر "الصعيد" في فترة الثمانينات والتسعينات إلى أقصى شمالها الشرقي "سيناء" بشمالها وجنوبها في بدايات القرن الحادي والعشرين .. نرجعها إلى الشعور ب"التهميش" و"الإهمال" ، فضلا على التعالي الذي يمارس على المستوى المجتمعي والسياسي على هاتين المنطقتين الجغرافيتين . بالتأكيد فإن هذا سبب واحد إلى جانب أسباب أخرى تعود في مجملها إلى السياسات الأمنية التي تتعاطى مع ظاهرة العنف "الصعيدي" أو "السيناوي" . إذ لا تراعي المعالجات الأمنية الطبيعة العشائرية والقبلية في تلك المناطق ، والتي تحكمها أعراف وتقاليد ينبغي أن يتفهمها من يريد أن يبني معها "علاقات مثمرة" . ولاشك في أن إهدار واحتقار هذه التقاليد والأعراف وعدم الاكتراث بها يجلب الكثير من المتاعب ويؤسس لعلاقات صدام ، قد تبلغ مبلغ الاحتكام إلى منطق "الثأر" في التعامل مع الآخر ، حتى وإن كان هذا الآخر هو"الدولة" متى تعدت الأخيرة على التقاليد العشائرية السائدة ، ولن يشفع لها دورها الذي يعطيها حق استخدام القوة ، ويضفي على هذا الحق المشروعية القانونية والدستورية . وكثير من عمليات العنف الذي مارسته الجماعات الجهادية المسلحة في الصعيد كان بدوافع ثأرية ، بسبب شعور الصعيدي ب"المهانة" أو "العار" لقيام أجهزة الأمن باختطاف بنته أو أخته أو زوجته كرهائن للضغط عليه لتسليم نفسه للأجهزة الأمنية ، وكلنا يعلم أن للمرأة في التقاليد الصعيدية مكانة كبيرة باعتبارها حاضنة العرض والسمعة والشرف وقد يؤدي المس بها إلى إشعال فتن لا تبقي ولا تذر . ولقد اعترف رئيس الوزراء المصري للصحافة الغربية أن حوادث العنف التي وقعت في طابا وفي شرم الشيخ ، كانت بسبب سياسات أمنية تعدّت على التقاليد العشائرية السيناوية ، سيما تعمد الأجهزة الأمنية إهانة شيوخ القبائل والعشائر ، وتكرار ذات السيناريو الهمجي في التعامل مع الأسر البدوية ، باختطاف النساء كرهائن ، وإلقاء القبض على أكثر من 5 آلاف شاب من أبناء سيناء وتعرضهم لعلميات تعذيب وحشية في مقار مباحث أمن الدولة . لاشك في أن سياسة التهميش السياسي والاجتماعي والخدمي ثم سياسة الإذلال الأمني الذي تعرضت له منطقتا الصعيد وسيناء ، أثمرت بيئة مترعة بثقافة الثأر من النظام .. وتحولتا بمضي الوقت إلى أطر اجتماعية قد تزايدت قابليتها لاحتضان أية جماعات ترى فيها مطية للثأر ممن أذلوهم وهمّشوهم واستعلوا عليهم ، ولعل بعض التحليلات وربما غالبيتها ذهبت إلى أن مرتكبي حوادث طابا وشرم الشيخ من قبل ، تلقوا دعما لوجستيا كبيرا ، من أفراد يعرفون جيدا تضاريس شبه جزيرة سيناء شديدة الوعورة والتعقيد . والخطورة هنا في أن سياسة "الإذلال الأمني" باتت لا تفرق بين مصري وآخر ، ولا بين فئة مهنية وأخرى .. إذ امتدت لتنال من جماعات مهنية ، كانت حتى وقت قريب - بسبب حساسية مكانتها السياسية والمهنية - خطوطا حمراء لأجهزة الأمن لم تجرؤ على التعدي عليها ، مثل القضاة والصحفيين . ولم تكن مصادفة في أنه في الوقت الذي كان فيه قاض يتعرض للسحل والضرب من ضباط وجنود الشرطة أمام ناديه ، كانت في ذات الوقت مدينة دهب السياحية على موعد مع ليلة دامية ، إذ استهدفت بسهولة وبيسر بثلاث تفجيرات أحالت بهجتها وفرحتها بعيد الربيع إلى مأتم . ولم تكن مصادفة أنه في الوقت الذي انشغلت فيه الأجهزة الأمنية ب"فبركة" قضية تنظيم إرهابي جديد من بعض الشباب الغلابة في الزاوية الحمراء ، كانت دهب السياحية تتعرض لهجوم إرهابي في ذات التوقيت الذي تعرضت فيه شقيقاتها السيناوية في العام الماضي لهجوم مشابه !. والمثير للدهشة أن كل هذا التخبط الأمني من الصعيد إلى سيناء إلى القاهرة ، كان سببه تحميل أجهزة الأمن وحدها مسؤولية حل أية مشكلة تسبب صداعا للقيادة السياسية قد تعيق أجندتها بشأن مستقبل انتقال السلطة في مصر ، أو بشأن تعاونها مع القوى الكبرى حول بعض الأزمات الإقليمية والدولية ، بدون أن يكون للسياسات الأمنية أية مرجعية سياسية ترشدها أو تحد من تغوّلها متى بات هذا التغوّل خطرا يهدد استقرار وأمن البلد . والنتيجة أن مصر الآن لم يعد يحكمها "القرار السياسي" بقدر ما يحدد وجهتها "القرارات والتقارير الأمنية" .. ومن شاء أن يتأكد من صدق ما أقوله ، فإني أحيله إلى ما نشرته الجمهورية والأهرام أمس بشان اعتداء أجهزة الأمن على قاض ووكيل نيابة أمام ناديهما بوسط القاهرة . sultan@almesryoon