من حسن حظى ،أومن سوء حظى أن الغردقة هى أقرب الشواطىء إلى سوهاج التى أقيم فيها منذ أكثر من ثلاثين عاما ، وكلما سمحت لى الفرصة بإجازة طويلة ،أو حتى قصيرة شددت إليها الرحال، فيما عدا إجازة نصف العام الدراسى التى تتوافق مع معرض القاهرة الدولى للكتاب والتى أقضيها فى المعتاد فى مدينة القاهرة حيث أتزود بالزاد السنوى من الكتب وألتقى بالأصدقاء القدماء، أو بالأحرى من تبقى منهم بعد رحيل أكثرهم عن دنيانا، فى الشهر الماضى وحده فقدت أعز صديقين : فاروق عبدالقادر ومحمد عفيفى مطر، ...لا أدرى كيف سيكون شعورى حين أزور القاهرة فى الشتاء القادم إن كان لى عمر دون أن أراهما... هذا الصيف زرت الغردقة سالكا إليها طريق الصعيد الجديد الذى ما زال رغم افتتاحه فى فبراير الماضى ، ما زال خاليا تقريبا من أية خدمات باستثناء نقطة إسعاف واحدة ، وباستثناء محل للحام الكاوتشوك تم افتتاحه مؤخرا ، وفيما عدا هاتين ، فليس بوسع المسافر فى الطريق أن يجد استراحة أو محطة بنزين أو حتى كيلومتر واحد مضاء ليلا !!... حينما يصل المسافر إلى الغردقة يتذكر حلم الخديوى إسماعيل الذى كان يحلم بأن يجعل مصر قطعة من أوروبا ... حلم إسماعيل تحقق فى الغردقة على يد سعد ، وسعد المقصود هنا ليس هو سعد زغلول ولكنه سعد أبوريدة محافظها السابق الذى نجح فى تحويل جزء من الغردقة إلى صورة طبق الأصل من المدن الأوربية ، لكن الثمن الإنسانى كان فادحا ، فما حدث فى الغردقة فى عهد أبوريدة يشبه فى الكثير من جوانبه ما حدث فى مصر بأكملها ، حيث ازداد الأغنياء غنى وازداد الفقراء فقرا وازداد الفاسدون فسادا، المنطق الذى تبناه أبوريدة هو نفس المنطق الذى يتبناه الكثيرون من أصحاب القرار فى مصر، ومضمونه أن تشجيع المستثمرين على الإستثمار ، وتشجيع الأغنياء على مواصلة الغنى سوف تستفيد منه بقية شرائح المجتمع ، فهو أولا سوف يخلق فرص عمل للعاطلين ، وهو ثانيا سوف يتيح للشرائح الأخرى أن تستمتع بثمار ما أنجزه المستثمرون ، هذا المنطق أثبت بطلانه على مستوى مصر كلها وعلى مستوى الغردقة بوجه خاص ، فقد كان الإقتصاد المصرى ينمو فى السنوات الأخيرة بمعدل 6% وأحيانا 7% فى الوقت الذى تزداد فيه معدلات البطالة ، ولا تجنى فيه الغالبية الساحقة أى جزء من عائد النمو الذى يذهب بأكمله تقريبا إلى حفنة محدودة من الأثرياء، وفى الغردقة أدى نمو القرى السياحية إلى تشغيل أعداد كبيرة نسبيا من عمال الصعيد فى عمليات البناء، لكن ما إن تمت الإنشاءات حتى قامت أجهزة الأمن بالقبض على الصعايدة وترحيلهم إلى بلادهم ومنع دخولهم إلى الغردقة حتى لا يشوهوا جمال المدينة بعد أن انتهت مهمتهم ، .. أما على المستوى الثقافى فإن مدينة الغردقة هى من أقل المدن المصرية إقبالا على القراءة، وهو وضع طبيعى فى ظل هذا النوع من الثنائية الذى تتسم به، فالطبقات الشعبية فيها مطحونة طحنا تاما بلقمة العيش، أما طبقة المستثمرين فهى تنتمى إلى تلك الشرائح الجديدة التى تفتقر فى أغلب الحالات إلى الإهتمام بأى هم وطنى أو فكرى عام ، ولا يعنيها سوى مصالحها الآنية والضيقة ، وبالتالى فإنها، ليست فى حاجة إلي القراءة ، ولو كانت لصحيفة، اللهم إلا إذا كان فى الصحيفة أمر يتعلق بها شخصيا ، من هنا فقد كانت دهشتى كبيرة جدا عندما كنت أتجول فى الممشى السياحى بصحبة إبنى عمرو حين فوجئنا بمعرض للكتاب داخل سرادق كبير فى أهم موقع من مواقع الممشى ، فى مواجهة ماكدونالدز، ..كان المعرض مقفرا إلا من عدد ضئيل من الرواد ، لكننا بحكم عادتنا رحنا نتجول فيه ونتناقش حول بعض الكتب ، لفتت مناقشاتنا منظم المعرض فاقترب منا كى يتعرف علينا، قال لنا إن اسمه مازن مازن وإنه فى الأصل عاشق للقراءة وهو ما جعله يفتتح محلا لبيع الكتب فى مول الزبرجد وهو متمسك به رغم ضآلة أرباحه لأنه مؤمن بأن القراءة بناء للإنسان وبالتالى بناء الوطن ، وعندما سألته كيف يسدد إيجار المعرض فى هذا المكان باهظ التكلفة ، كانت إجابته أكثر إدهاشا ، قال لى إن المبادرة جاءت من اللواء سعيد جبر الرئيس السابق لمدينة الغردقة ، الذى منحنا المكان بمقابل رمزى لأنه كشخص قارىء جيد، وكمسئول واحد من القليلين المؤمنين بالقراءة ، إن اللواء سعيد جبر بذلك واحد من القليلين الذين يملئون النفوس بالأمل وسط كل هذا الظلام . [email protected]