من العسير في السنوات الأخيرة أن تجد قضية واحدة يتفق عليها الشمال والجنوب ، أقصد دول العالم العربي والدول الأوربية ، لا في سياسة ولا في اقتصاد ولا في ثقافة ولا في دين ، وذلك أن منطق الهيمنة أصبح أكثر بروزا في تلك العلاقة ، وهناك وعي جديد لدى الشعوب خاصة في الشرق يرفض تلك الهيمنة ، الحالة الوحيدة تقريبا التي وجدت الجانبين يتضامنان فيها ويتعاضدان هي قضية الحرب على "النقاب" ذلك المعلم الإسلامي الأكثر إثارة للجدل هذه الأيام ، لا يكاد يمر يوم واحد دون أن تسمع أو تقرأ في وسائل الإعلام المختلفة عن تفجير قضية النقاب في هذا البلد أو ذاك ، ومناقشة قضية النقاب في ذلك البرلمان أو ذاك ، واستطلاعات رسمية وغير رسمية للرأي عن الموقف من موضوع "النقاب" ، وقرار رسمي يصدر من هذه الحكومة أو تلك يمنع النقاب ، ونقاش صاخب في هذا البرلمان أو ذاك عن أزمة النقاب ، وندوات ومحاضرات في تلك الجامعة أو مركز للأبحاث تتحدث عن النقاب ، ولم يتبق سوى أن يتم نقل مناقشات النقاب إلى مجلس الأمن الدولي!! ، من تونس وليبيا ومصر وسوريا إلى روما ولندن وباريس وأمستردام ومدريد وغيرها من العواصم ، وبعيدا عن أي نقاش ديني أو ثقافي أو سياسي ، فإن هذا الذي يحدث إنما يعبر عن "هوس" حقيقي لا يمكن وضعه تحت أي تفسير علمي أو إنساني أو قانوني أو أخلاقي ، أن تستر امرأة وجهها قناعة منها بأن ذلك مستحسن دينيا أو واجب دينيا أو مستحب دينيا أو حتى منظرة ، ما الذي يضايق الآخرين من ذلك ، إن اختيار المرأة المجرد للزي الذي تلبسه هو حق يكفله لها القانون وأبسط معاني التحضر والقبول بالآخر ، فإذا أضيف إلى هذا المعنى ارتباط قضية النقاب عند ملايين النساء بالبعد الديني لاعتقادهن سواء تتفق مع ذلك أو تختلف بأنه جزء من دينهم وعبادتهن ، فإن الاعتداء عليه ومنعه وتجريمه يمثل جريمة مضاعفة ، لأنه اعتداء على الحرية الدينية التي كفلتها كل مواثيق العالم بدوله وأممه المتحدة ، ويصبح منع ملايين النساء من النقاب يمثل قمعا دينيا وعملا ضد الإنسانية وضد التحضر ، بعض الحكومات الأوربية بعد أن تتخذ القرارات الظالمة ضد النساء المنقبات تفاجأ بها تلجأ إلى بعض الآراء الفقهية في الإسلام ترى أن النقاب ليس فريضة دينية ، وهو أمر مضحك ، لأن الشأن الديني أوربيا حرية شخصية ابتداءا ، كما أن القوانين التي تصدر لا صلة لها بكون النقاب واجبا دينيا أو غير واجب ، وإنما يلجأون إلى ذلك من أجل تخفيف حدة "الفضيحة" التي يكشف عنها هذا التعصب الأوربي الجديد ضد الإسلام نفسه ، لأن مشكلة النقاب في جوهرها مشكلة رمزية ، إعلان عن "ثقافة بديلة" وعن رفض التماهي في قيم أوربية راسخة ، وتهديد ثقافي وقيمي للثقافة الأوربية واختياراتها ، وهو ما لا تحتمله أوربا كما أنها لا تستطيع أن تعلن حقيقة موقفها لأنه ينقض أسسا قانونية ودستورية هناك ، الموقف الأوربي من النقاب في جوهره هو ناتج للتعصب يحاول أن يستر نفسه بأي مبررات أخرى دفعا للحرج عن الدول التي تتباهى بأنها نشرت الحريات العامة وثقافة حقوق الإنسان في العالم ، وأما في العالم العربي فإنه مع الأسف يتم استخدام إعلان الحرب على النقاب "قربانا" للتودد إلى الدول الغربية والمؤسسات الدولية لتحقيق مكاسب سياسية متصلة بكرسي "العرش" قبل أي شيء آخر ، على نفس وتيرة إعلان الحرب على معالم إسلامية أخرى عديدة والتضييق على الدعاة إلى الفضيلة وإلى الالتزام الديني أثناء "هوجة" الحرب الأمريكية على الإرهاب ، ويعجز أي مسؤول في أي عاصمة عربية عن الحضور في مناظرة حول قضية "النقاب" والكشف عن المبررات الأخلاقية أو العلمية أو الأمنية أو القانونية التي تدفعهم إلى مثل هذا التحرش بالنقاب ، رغم الدجل الكثير الذي يقال في هذه النواحي لمحاولة تشويه النقاب والمنقبات ، كان أولى بأبطال الحرب على النقاب أن يعلنوا الحرب على الفساد ونهب المال العام وتزوير إرادة الأمة وسحق كرامة الإنسان فيها وضياع العدل والعدالة وقتل مئات الآلاف من النساء والأطفال سنويا من جراء سياسات فاشلة وفاسدة ورثتهم الفقر والمرض والذل والاكتئاب حتى وصلت أعداد المنتحرين في عام واحد أكثر من عددهم في عشرين عاما خلت ، أعيدوا للوطن كرامته ، وللمواطن حقوقه "الآدمية" ، وللعدالة استقلاليتها وهيبتها ، وللحريات العامة حرمتها ، ولصندوق الانتخاب نزاهته وشفافيته ، ثم تعالوا بعد ذلك "نتسلى" بالنقاش عن الحجاب والنقاب واللحية والجلباب . [email protected]