إن حبك للشخص يسوقك لتقليده ومحاكاته، والتطلع بنهم على أدق تفاصيل حياته الشخصية، ومعرفتها يُعد شيئاً ممتعاً لمن يبحثون عنها..والأجدر بالمبدعين والعباقرة، أن لا يبخلون بالحديث عن حياتهم الخاصة..وإبداء آرائهم وانطباعاتهم في الأذواق والألوان والرغبات والأشخاص ، وكل دروب الحياة.. إن التواصل بين القاريء والكاتب الذي يُحبه ، لا يجب أن يقف عند بوصلة الفكر وحدها، والكاتب الذي يبخل على مريديه بحديثه الذاتي، ويُعده نوعاً من الفضول والاستطالة على حياته الشخصية، فإنه يحرمهم من متعة كبيرة من حيث لا يدري، كما أن التجارب الذاتية في ميدان الحياة الخاصة ، هي أدب ذاتي من أمتع ما تقرأ من صنوف الأدب، وكم عشقنا الأستاذ (عبد الوهاب مطاوع) الذي كان يقص علينا تجاربه الحياتية، فنقرأها بمتعة واشتياق، حتى أنه لما مات، حزنت لأن قطار التجارب قد وقف في محطته الأخيرة، ولن يعود ليحدثنا عن رحلاته مرة أخرى. ولا أعرف كُتُباًَ أفادتني واستقيت منها ما ساهم في بنائي الثقافي،كما استقيت من كتب التراجم والسير الذاتية، التي تضم الخبرات والتجارب والأحداث والسلوك، وتعكس صورة لعظماء الرجال وعباقرة الدنيا ، وكيف ساهمت الأقدار في تكوين هذه الأشخاص ومكانتهم في الحياة. إن أي إنسان ، لابد له أن يكتب مذكراته ..مهما كان شأنه في الحياة، فإنه لابد أن تكون له تجارب ونوادر وآمال وآلام ، تستحق القراءة والاستفادة منها ، وإني لأتخيل الآن لو كان جدي رحمه الله والذي لم أره ولا أعرف صورته، قد كتب مذكراته أو أملاها على أحد أبنائه ..كيف سيكون الأمر ساعتها ؟ لابد أنها كانت ستمثل شيئاً رائعاً في حياتنا، وتُعطي لأحفاده والأجيال المنحدرة من نسله، صورة لملامح حياته. ولا آسف في الدنيا على رجل حُرمنا من قراءة مذكراته كالشيخ (محمد الغزالي) رحمه الله ، وكنت أتمنى وأرجو أن أتعرف على الشيخ الغزالي وبيئته وتكوينه ونشأته، وخصوصاً كيف طلب العلم؟ وكيف كان تكوينه الثقافي؟ ..فالشيخ أديب رائع ، وداعية فذ ، ومفكر عظيم. كنت كثيراً ما أتساءل كيف للشيخ أن يتناسى أمر مذكراته ويغفل عن كتابتها؟! بل كيف لتلامذته أن يضل عنهم هذا الأمر، فلا يطالبونه بتدوينها؟ إنها خسارة كبيرة بكل المقاييس، ولقد سعدت حينما وجدت أستاذنا الأديب (عبد الوهاب مطاوع) قد تحدث عما جال بخاطري ، وأسف كما أسفت لرحيل الشيخ (الغزالي) دون أن يكتب مذكراته. حيث يقول:"مذ فترة اتصلت بالداعية الكبير فضيلة الشيخ (محمد الغزالي) ودعوته لأن يكتب مذكراته ويثري بها معارفنا وخبرتنا بالحياة، فقال لي: أنه قد فكر في هذا الأمر طويلاً ورأي في النهاية أن نشر مذكراته في الظروف الحالية، قد يُسيء إلى بعض الأشخاص الذين يتناولهم فيها، وهو لا يريد أن يُسيء إلى أحد حتى ولو كان اختلف معه في بعض مراحل حياته . وجادلته في ذلك بعض الوقت، واقترحت عليه أن يكتب حتى ولو قصة نشأته الأسرية والمؤثرات العائلية والاجتماعية التي كونت شخصيته في مرحلتي الصبا وبواكير الشباب كما فعل عميد الأدب العربي (طه حسين) في أجزاء الأيام الثلاثة، لكنه لم يتحمس لذلك للأسف ، وقال لي إنه يفضل أن يدع ذلك للمستقبل.! ولم تمض شهور على حديثنا هذا، حتى كان الأجل المحتوم قد وافاه وهو يشارك في ندوة علمية بالمملكة العربية السعودية ودفن بأرضها رحمة الله عليه ..وضاعت علي وعلى الآخرين فرصة الاستفادة بقراءة مذكراته .." وأنا واحد من هؤلاء الذين ضاعت عليهم تلك الفرصة..وللأسف حتى الآن.. لم نر أحداً كتب عن الحياة الخاصة للشيخ الغزالي من أبنائه وذويه ، وفيهم أهل علم ودعوة، ويبدو أنهم يكررون خطأ أبيهم العظيم..ويريدون كما أراد أن يهيلوا التراب على كفاحه الطويل عبر سنوات عمره المديدة.. ولقد كتب الشيخ القرضاوي لمحات من حياة الشيخ التي أعنيها في كتابه الرائع (الشيخ الغزالي كما عرفته رحلة نصف قرن) ولكنها لمحات عابرة، وركز أكثر على حياته الفكرية، ورؤاه الإسلامية، وكذلك فعل عمارة، والمرحوم الدكتور عبد الحليم عويس، حينما كتبوا عن الشيخ رحمه الله. إن أبرز من تعد أعمالهم إضافة للمكتبة العربية، هم أولائك الباحثين الذين يترجمون لحياة المفكرين والأدباء، ولكن أروعهم هم أولائك الذين يكتبون سيرتهم الذاتية، وتجاربهم الحياتية، وآخر ما قرأت من هذه الكُتب كتاب (أنا نجيب محفوظ) لإبراهيم عبد العزيز، حيث بذل الكاتب جهداً كبيراً لعرض حياة نجيب محفوظ واستخلص بعضهاً من حواراته ولقاءاته التلفزيونية والصحفية، لأن نجيب محفوظ لم يكن من هواة الكتابة عن نفسه ، ولا يحب من أحد أن يتعرف على حياته الخاصة، وكانت له محاولات في الكتابة الذاتية، ولكنه مزقها وقال : أحب أن يرى القاريء مني ما أريد أن أقوله أنا له. أما الدكتور (عبد الوهاب المسيري) فكانت له رؤية وسطاً، حيث قدم ومنع في ذات الوقت ، في كتابه الرائع (رحلتي الفكرية) ، الذي لم يذكر فيه من حياته الشخصية وتجاربه الذاتية، سوى ما كان له علاقة بتطوره الفكري.. حيث قال :" ولعل ما دعاني إلى استبعاد بعض تفاصيل حياتي الخاصة (المغرقة في الخصوصية) وهي تفاصيل قد تكون مهمة من منظور شخصي، وقد تهم أعضاء أسرتي وأصدقائي، ولكنها لا تهم قاريء هذه الصفحات، ولعل هذه الواقعة توضح تماماً ما أود قوله ، فقد حضرت احتفالا رسمياً بمناسبة افتتاح كوبري في مديرية البحيرة وانهالت الخطب الواحدة تلو الأخرى ..ثم قام أحد خبراء النفاق وأخذ يعدد مناقب سعادة الوزير الذي جاء لافتتاح الكوبري ، فسعادته طيب جداً وعلى خلق متين للغاية ويقيم الصلاة في مواقيتها "وميفوتشي فرض"...إلخ .فقام أحد المستمعين محتجاً ، قائلاً :" إن هذه صفات إيجابية إن كان الحديث عن زوج ابنتي، لكن إن كان الحديث عن وزير (أي شخصية عامة) فالأمر جد مختلف ، وهذا هو ما فعلته في هذه الرحلة ، أي أنني استبعدت كل الوقائع والتفاصيل التي ليس لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بتطوري الفكري ، ما لوني المفضل ؟ ما نوعية قماش بدلتي؟ ومن خالتي؟...إلخ ، فهي وقائع لاتهم من يريد أن يتعرف على تطوري الفكري ، وحينما كنت أذكر إحدى الوقائع في حياتي، كنت كثيراً ما أستبعد الأسماء الحقيقية لأبطالها، حتى لا أسبب حرجاً لأحد منهم ، وحتى يُركز القاريء على مغزى الواقعة، لا على تفاصيلها ، وقد يقول قائل إن كل الأمور مترابطة ، وإنني قد أستبعد بعض التفاصيل المهمة دون أن أدري وهو محق ، لكن لا مناص من الإختيار والإبقاء والإستبعاد والتهميش والتركيز حسب نموذج محدد" وله الحرية في ذلك فكثيرون يعتبرون أن حياتهم الخاصة ملك لهم وحدهم ، ولديهم حساسية مفرطة في أن يعرف أحد من الناس شيئاً منها ..ولا أعرف ربما يكون هذا الباعث من مكونات تركيبتهم النفسية والتربوية. لكنني وعن نفسي.. أرى أن حياة المبدعين ليست ملكاً لهم وحدهم وإنما هي ملك لملايين المحبين والمعجبين. لقد كان العقاد من هواة التراجم، وفي يوم من الأيام كان يقرأ كتاباً فسأله الشاعر (صالح جودت) ماذا تقرأ فقال : أقرأ كتاباً عن حياة الممثلة الفرنسية (بريجيت باردو) واندهش جودت وقال: العقاد يقرأ عن بريجيت باردو؟! فرد بهدوء: ولم لا؟ فليس هناك كتاب أقرأه ولا أستفيد منه شيئاً مهما كانت ضآلته، وفي حياة كل إنسان، ما يستحق أن يتأمله المرء ويستفيد منه ، فإن لم أستفد من الكتاب التافه شيئاً على الإطلاق عرفت منه على الأقل كيف يكتب الكتاب التافهون وفيهم مفكرون؟! أما عن المسلسلات التلفزيونية التي تجسد سيرة هؤلاء العباقرة فأنا مولع بها وتستوهيني بصورة أخاذة كمسلسل الأيام وجمال الدين الأفغاني، ومسلسل العملاق الذي يجسد شخصية العقاد، والذي بحثت عن حلقاته في كل مكان فلم أجده، حتى أنني وعدت بمكافأة مالية لبعض زملائي من خبراء الإنترنت لو جاءوني بحلقة واحدة منه..ويكاد هذا المسلسل هو الشيء الوحيد الذي لم يدخل (اليوتيوب)، فكل شيء موجود إذا بحثت عنه، إلا هذا المسلسل..هذا ولا زالت المكافأة قائمة لمن يأتيني بحلقة من مسلسل العملاق. أما الدهشة الحقيقية، فهي التي تراها على من يدخل علي فيجدني أشاهد فيلم ( 26 يوماً من حياة دوستويفسكي).. الفيلم بالروسية، ومع ذلك أهيم في مُشاهدته، وقد بحثت كثيراً عن أي شيء يجسد لي حياة (دوستويفسكي) فوجدت هذا الفيلم فيما وجدت، ف (دوستويفسكي) هو الذي باركه الأديب الروسي (جوجل) حينما عرض عليه روايته (المساكين) وهو في العشرينات من عمره ليقرأها ، فلما انتهى منها دق بابه ليلاً وقال له: اليوم ولد لدينا أديب جبار..وحقا كان (دوستويفسكي) جباراً ، فأدبه كان يهز روسيا كلها، وكانت كتاباته تغير ملامح المجتمع الذي يعيش فيه، ذلك المجتمع الذي عاش فيه حياة مليئة بالشقاء والبؤس والعناء..أما الغريب في الأمر فهو أنني وأنا أشاهد الفيلم لا أعرف كلمة واحدة في اللغة الروسية ، كما أن الفيلم غير مترجم ، ومع ذلك أتابعه من البداية للنهاية ، فمجرد صورة (دوستويفسكي) في حد ذاتها شيء مبهر، والشعور بأنك تراه شيء جذاب، ناهيك عن تلك المشاهد التي تصوره وهو يكتب أعماله ورواياته ، ويستجمع أفكارها من الخيال ، فيبلل ريشته ليسطر إبداعه وما يلمع في أفكاره. وللأسف تعرفت على (دوستويفسكي) مؤخراً ، وقمت بشراء مجموعته كاملة، وبدأت أقرأ في أول شيء منها وهي روايته الرائعة (ذكريات من عالم الأموات) ولم أزل أتابع أعمالة حتى أستدرك ذلك الوقت الرهيب الذي مر علي وأنا غائب عن حقيقته.