التفت جماهير الشعب الليبي كالبنيان المرصوص في التحام رائع بديع وتواد وتراحم فيما بينها من أجل تحقيق هدف واحد، وهو إسقاط توليفة حكم القذافي الظالمة التي ساهمت في تأخر البلاد وظلم العباد، وأيضا قام العديد من أعوانه والبعض من قيادات تلك المجموعة بتعذيب وقتل وسرقة أموال الشعب الليبي، تراصت الناس في كل مناطق ليبيا وأجبر شبابها علي حمل السلاح في مواجهة كتائب هذه الطغمة الفاسدة، نعم كان تحالفًا وتماسكًا عظيمًا أبهر العالم الخارجي ورفع من قيمة الشعب الليبي في نضاله من أجل الحرية والعدالة والمساواة ومكافحة الطغيان والظلم. كنا نعمل- كلٌّ في مجاله- فريقًا واحدًا من أجل الوصول بليبيا إلى تحقيق النصر، كل ذلك كان يستهدف بالدرجة الأولى أن يتم بعده تكوين الدولة الليبية الحديثة الديمقراطية التي تسعى إلى رفع الظلم عن الشعب المطحون وتحقق المساواة والعدالة وترفع من مستوى حياة الفرد والأسرة الليبيه وتوفر لهذا الشعب الخدمات اللازمة والمهمة من تعليم وصحة وكافة الخدمات الأخرى تحت مظلة حكم ديمقراطي يساهم فيه كل أطياف المجتمع الليبي. كانت هذه أمانينا، وكنت على المستوى الشخصي منذ بداية الثورة أُسخِّر كل علاقاتي وإمكاناتي الدولية والعربية والليبية لخدمة هذا التوجه بالحديث الإعلامي والكتابة والنصح والإرشاد وتقديم المشورة بشكل مباشر وغير مباشر، آخذا عهدًا على نفسي ألا أقبل أي وظيفة رسمية ولا أنتمي لأي حزب أو جماعة، وأن أقوم بعملي أولاً لوجه الله تعالى، وثانيًا لخدمة ليبيا الحبيبة وناسها الطيبين. ومرت الأيام والشهور وفي كل فترة نصدم بتصرفات بعيدة كل البعد عما كنا نأمله ونحلم به في هذا الوطن الغالي، ولعل من المناسب أن نسرد بعض الحقائق المرة التي أدت بنا وبي شخصيًّا إلى هذا الإحباط المؤلم: أولاً: ظهور الجشع للحصول على المال بحق أو بدون حق، وشجع علي ذلك قرار المجلس الانتقالي بمنح مكافآت للثوار المقاتلين بشكل غير منظم، ثم توسع الأمر بقيام الحذّاق السرّاق في استغلال ذلك العبث الإداري والمالي وبدءوا يتفننون في سرقة أموال الشعب الليبي واستشرى الفساد المالي بسرعة غريبة. ثانيًا: اعتماد الإدارة الليبية في الوزارات والمصالح والهيئات على قيادات من خارج ليبيا، وأعني بهم الليبيين الذين كانوا يقيمون بالخارج ووضعهم علي رئاسة هذه الإدارات وظهور نغمة العزل السياسي وإبعاد كل العناصر الليبية التي لها الخبرة الكافية في إدارة الدولة الليبية، وكان بالإمكان أن يطعموا بهؤلاء الخبراء معهم وليس إقصاؤهم لأنني على علم بأن هناك العديد منهم عملوا في الإدارة السابقة ولكنهم كانوا وما زالوا وطنيين. ثالثًا: تنامي الشعور بالسلطة من قبل بعض قيادات الثوار وإصرارهم على الاستمرار في مواقعهم كقادة لهذه الكتائب التي تنامت وتزايدت إلى درجة أصبحت هناك كتائب جديدة أطلقتُ عليها اسم "ثوار ما بعد التحرير". رابعًا: تكوين كيانات سياسية تحت مسمى الأحزاب، ليس لها أي قواعد شعبية على أرض الواقع، وليس لها حكمة وإلمام ومعرفة بشئون المجتمع الليبي وتركيباته الفئوية والقبلية وأصبحت تتصارع فيما بينها وساهمت في انتشار الفوضى في السياسة والإدارة. خامسًا: فشل الحكومات في ترتيب الحكم المحلي ومركزة الأمور بعقلية إدارية هابطة أدى الي شعور المواطن بعدم التغيير، بل إنه شعر بالتسيب الواضح في المناطق لعدم وجود الأجهزة المحلية التي تتولى إنهاء مطالبه وشئونه المحلية. وأخيرًا: هناك صراع على السلطة بأشكال عدة، تارة تحت مسمي "الفيدرالية"، وتارة تحت مسمى "الشرعية الثورية"، وتارة تحت مسمى "الطائفية والجهوية"، والأخطر أيضًا وجود طموحات سلطوية متعددة عند بعض العسكريين في الوصول إلى السلطة، ودخول التطرف الديني بأشكاله المختلفة على الخط، وأيضا ظهور العصابات من ذوي السوابق من أجل الكسب والسيطرة، ما تسبب في تداخل الأمور وبدأت الصورة الضبابية تسيطر على البلاد. ونتيجة لتلك الأوضاع، وبطبيعة الحال انتهز أعوان النظام السابق في الخارج والداخل هذا الأمر وبدءوا يطمحون في العودة إلى الحكم والانتقام، ودخلنا في مسلسل التفجيرات والاغتيالات. وقد قال لي صديق في هذه الأيام بعد إتمام صلاة التراويح: "والله يا أخي أنا ندمت على كل ما فعلته في أيام الثورة"، واستدرك قائلا: "لا أقصد الندم على القذافي وأعوانه، فهم يستحقون ما حدث لهم، ولكني ندمت لأننا لم نقف وقفة جادة بعد التحرير ولم نستمر في العمل بالثورة لكي نسهم بقطع الطريق أمام كل هذه الفئات الفاسدة من ناحية، وكذلك من أجل إيقاف أو الحد من تحول الثوار إلى نفعيين تهمهم مصالحهم وأن الثورة لهم وحدهم". قال صديقي لي ذلك، ونحن في حديث أمام المسجد، وهو لا يدري أنني منذ اغتيال الشهيد عبد السلام المسماري، ثم تفجير ميدان وساحة الحرية بالمحكمة ببنغازي، وأنا أعيش حالة من الاكتئاب والإحباط غير العادي، ويزداد الإحباط عندي عندما أفتح أي قناة من قنواتنا الفضائيه التي تحولت للأسف لأبواق تمثل أجندات بعينها ولا تهتم بحقائق الأمور لتقديم النافع لليبيا وناسها، لأن قنواتنا وتصريحات مسئولينا من وزراء أو نواب، أصبحت كلها مقرفة وتصيب الإنسان بالإحباط والاكتئاب. واليوم في ليلة القدر وأنا أكتب هذا المقال أدعو المولي عز وجل أن يزيل عني وعن كل الليبيين والليبيات هذا الإحباط وأن يحفظ الله ليبيا وأهلها وأن يولي علينا خيارنا.. يارب. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.