الناس مقامات في بلادنا ، هذا ما سلمنا به مع الأسف من فرط الإحباط ، وهناك مواطنون فرز أول ومواطنون فرز ثاني ، وهناك مواطنون درجة ثالثة ورابعة أيضا ، هذا ما نعاينه في مصر سلوكيا ، ولكن بعض القرارات التي يتم تأسيسها على هذا الفرز الطبقي البغيض تكون من الفجاجة إلى الحد الذي يصعب ابتلاعه ، الأسبوع الماضي صدر قرار لا أعرف من صاحبه بالضبط ، يقضي بتحويل جميع سيارات النقل والتريلات من الطريق الصحراوي بين القاهرةوالاسكندرية إلى الطريق الزراعي ، وذلك لتفريغ الطريق الصحراوي للباشوات والسوبر باشوات وأنجالهم وخدمهم الذين يقطعون الصيف جيئة وذهابا إلى مارينا وأخواتها ، وحتى لا يضايقهم "العوام" في الطريق ويزعجهم الزحام ، ويسري هذا القرار طوال شهور الصيف ، والذي يعرف الطريق الزراعي الذي يمر عبر قليوب ثم طوخ ثم بنها ثم طنطا ثم كفر الزيات ثم دمنهور ثم الاسكندرية ، وحيث يتفرع خلال هذه الرحلة إلى عشرات التفريعات إلى مدن الدلتا الكبيرة والمهمة ، يعرف بالبديهة أن مثل هذا القرار يكون كارثة على هذا الطريق وعلى ملايين المواطنين "الدرجة الثانية" الذين يستخدمونه ، الطريق الزراعي مصيبة في حد ذاته ، وبدون أي إضافات ، ووزارة المواصلات تبحث عن توسعات ومحاور بديلة لإنقاذه من الاختناق ، خاصة في الوصلة من شبرا الخيمة إلى بنها ، وفي بعض الأيام يتم قطع المسافة التي لا تتجاوز الأربعين كيلو مترا في ساعتين أو أقل قليلا ، والآن يصبح استخدام هذا الطريق مأساة حقيقية بعد تحويل التريلات وسيارات النقل جميعها إليه ، الطريق الصحراوي أفضل كثيرا في السيولة والحركة من الطريق الزراعي ولا يوجد وجه للمقارنة أصلا ، وفي شهور الصيف يكون هناك ضغط زائد على الصحراوي ، ولكنه ليس بالدرجة التي تعيق الحركة ، وإنما قد تبطئها ، نظرا لاستخدام مرتادي الساحل الشمالي للطريق بكثافة ، ولكن الباشوات الذين يذهبون إلى مارينا لن يضرهم كثيرا أن يتأخر في طريق المائتي كيلو متر نصف ساعة زائدة ، ولكن مواطني سبع محافظات وعشرين مدينة كبرى الذين لا سبيل لهم للوصول إلى رحالهم إلا باستخدام الطريق الزراعي سيكونون أمام محنة حقيقية عندما يصل أحدهم من القاهرة إلى المحلة الكبرى في أربع ساعات مثلا ، رغم أن المسافة يمكن قطعها في ساعة واحدة أو أكثر قليلا ، كما أن مستخدمي هذا الطريق ليسوا من أهل النزه والفسح والتصييف ، وإنما غالبيتهم العظمى من الكادحين وأصحاب المصالح التي تضطرهم المركزية الشديدة إلى السفر إلى القاهرة لقضائها ، أو تستدعي تجارتهم وأحيانا وظائفهم السفر اليومي من القاهرة إلى طوخ أو بنها أو المحلة أو بركة السبع أو شبين الكوم أو غير ذلك من المدن ، هؤلاء الملايين الذين يحملهم "الهم" اليومي إلى القاهرة جيئة وذهابا ، لماذا نزيد عذابهم اليومي ومأساتهم اليومية طوال أشهر الصيف القاسية ، لمجرد توفير المزيد من الرفاهية والاسترخاء للباشوات من أهل مارينا وأخواتها ، لماذا هذا الاستفزاز للخلق ، لماذا فرض العذاب اليومي والتكدير طوال أشهر الصيف على سكان سبع محافظات على الأقل : القليوبية والدقهلية والغربية والمنوفية وكفر الشيخ والبحيرة ونصف محافظة الشرقية الجنوبي الغربي وعشرات المدن ومئات القرى ، وهي البلاد التي تعتمد اعتمادا أساسيا على الطريق الزراعي : القاهرة اسكندرية في حركتها اليومية ، يعرف المصريون وفق القانون الطبقي غير المكتوب كالدستور الانجليزي أن تمهيد الطرق والعناية بها مرتبط بمن يستخدمون الطريق ، فإن كانوا "العوام" ومواطني الدرجة الثانية والثالثة ، فستجد طريقا لا يصلح إلا لاستخدام الدواب ، وأما إذا كان يستخدمه مسؤول رفيع فإن الطريق ستجده مثل الحرير ويتم تحديثه كل عدة أشهر ، وإذا علا مقام المسؤول أكثر فستجد حواف الطريق وقد ازدانت بالورود والأشجار التي لا تعرفها في أي مكان آخر ، ماشي ، فعلى الأقل يستفيد العوام منها بعض الوقت ، ولكن أن يتم عقاب عدة ملايين من المواطنين وتكديرهم عدة أشهر حتى نفسح الطريق للباشوات ونسائهم وأنجالهم وخدمهم وحشمهم ، فهذه "فجاجة" يصعب ابتلاعها. [email protected]