أخي العزيز/ محمود سعد تحية طيبة وبعد، أهديك خالص التحية والتقدير، وأرجو أن تصلك رسالتي هذه وأنت في أفضل حال وأهنأ بال، وحشتني جدًا يا محمود، وأرجو أن تسامحني على تأخيري في كتابة الرسالة، ولكن لا بد أنك تشعر بما أريد أن أكتبه، فأنت شقيقي الأصغر ودائما كنت الشخص الذي تفهمني بسرعة، ولمَ لا؟ فنحن قد نشأنا في أسرة قوية متماسكة تضحك وتعشق وتتكافل وتحب الحياة، أصدقك القول أني كنت أحب الجلسات التي تكون حاضرا فيها بروح الدعابة والفكاهة التي تملأ بها المكان، هل تذكر يا محمود فترة الطفولة حينما كنت أصطحبك معي إلى المسجد لتحفظ القران، كنت أراك نابغا منذ صغرك، ودائما ما كنت أشعر أن القدر يخبيء لك مستقبل عظيم، وحتى عندما نجحت في الثانوية العامة كنت أنا الذي اختار لك قسم الحاسب الآلي بأكاديمية السادات، وبعد تخرجك كنت أنا كذلك من دفعك لتبدأ دراسة الماجستير، كنت أشعر بسعادة عظيمة وأنا أراك تتدرج في حياتك الوظيفية وترتقي من شركة لأخرى أفضل، حتى استقر بك الأمر كأحد المتميزين في مجال تقنية المعلومات بأكبر الشركات في مصر، ولكن الجميل أنك تعلمت العطاء من صغرك، فبالرغم من نجاحك المهني إلا أنك كنت تصر على أن تعطي جزءا كبيرا من وقتك لتحفيظ الأطفال والشباب القران الكريم، وعلى يديك تخرج العديد من الشباب الذين حفظوا القرآن وساروا على نفس الطريق، ربما هذا ما تعلمناه من أبي وأمي.. وهي تدعو لنا دائما بأن نكون ذرية صالحة تعمل للدين والوطن، ولذلك فقد جمعنا سويا عشق الوطن، ولم يكن مستغربا أن تكون أنت في طليعة شباب ثورة 25 يناير، لا زلت أذكر يوم تنحي مبارك حينما استقبلنا سويا الخبر مع زوجاتنا وأطفالنا أمام قصر الاتحادية، تعانقنا وهتفنا باسم مصر وتحركنا في مسيرة هادرة وفرحة عارمة إلى ميدان التحرير، كنا جميعا نحلم بوطن جديد ننال فيه حريتنا ونشعر فيه بالكرامة والعزة، نفس هذا الشعور ونفس الاحتفالات عشناها بعد فوز الدكتور مرسي برئاسة الجمهورية، حيث كان الحلم أن البداية الحقيقية قد اقتربت بعد إخفاقات الفترة الانتقالية في عهد المجلس العسكري. أعرف يا محمود أنك لم تكن تشعر بالرضا الكامل عن الفترة التي حكم فيها الرئيس مرسي البلاد، ولكن كان هناك أمل في أن يتحسن الأداء في الثلاث سنوات الباقية من عمر رئاسته، وإلا فلن نعيد انتخابه مرة أخرى، ولذلك فقد تفهمت سبب معارضتك الشديدة للانقلاب العسكري في الثالث من يوليو، وسبب نزولك مع الملايين من المصريين للاعتراض على ذلك، كان وجودك اليومي في ميدان (رابعة العدوية) كافيا لإشعال الحماس المستمر لمواصلة الطريق، ولكن الغريب هو نبرتك المتفائلة دائما والتي كنت تثق فيها أننا سننال حريتنا وكرامتنا. وجاء يوم 14 أغسطس.. جاء يوم فض اعتصام (رابعة).. عندما وصلك الخبر كنت لتوك عائدا من الميدان، ولكنك أصررت على أن تعود مرة أخرى وتقف بجانب زملائك في تلك اللحظات، بصعوبة بالغة تمكنت من دخول الميدان من ناحية (طيبة مول)، وهناك كان المشهد مروعا، أقل ما يقال عنها أنها حرب حقيقية صوت الرصاص الحي يملأ المكان، الدماء تنزف، والجثث تتناثر في كل مكان، وهناك.. لمحت عيناك ذلك القناص فوق المبنى وهو يصوب بندقيته، الجميع رآك تجري مسرعا لتبعد زميلك عن مرمى النيران، ولكن بدلا من ذلك استقرت الرصاصة في رأسك، تمالكت نفسك وحاولت النهوض مجددا باتجاه المستشفى الميداني، ولكن لم يكن باستطاعتهم فعل شيء.. فقد استقرت الرصاصة في قاع الجمجمة، وزادت كمية الدماء التي تنزف منك بشكل يؤكد أنك في طريقك لتودع دنيانا. قل لي أنك تمزح يا محمود، قل لي أن تلك نكتة، أو كابوس مخيف سأفيق منه بعد لحظات، لا يمكن أن ترحل عن الدنيا بهذه البساطة، ألم نتعاهد أن نعيش سويا.. أو نرتقي للشهادة سويا، كانت أمي تعرف أن أبناءها الخمسة في الميدان وتدعو لنا ولمصر بالتوفيق، ولكنها كأي أم.. كانت تخاف من أن يصيبنا مكروه، قررت أن أقوم بالمهمة الصعبة وأذهب لأمي وأبي وأنقل لهما الخبر الصادم، ولكن في البداية لا بد أن ألقي نظرة أخيرة على جسدك الطاهر في مسجد (الإيمان) بمدينة نصر، حيث عرفنا أن أولاد الحلال قاموا بنقلك هناك، قبل أن يتم إحراق المستشفى الميداني بما تبقى فيه من جثث، كان المشهد مروعا، المئات من الجثث المتراصة بداخل المسجد وفوقها ألواح الثلج والمراوح للتقليل من تأثير الحرارة المرتفعة، شاهدت بعيني بعض الجثث وقد تفحمت تماما ولا تبدو لها أي ملامح، وهناك في الزاوية وجدتك يا أخي الحبيب نفس الابتسامة الجميلة لم تفارق وجهك، بالرغم من الدماء التي تغطيه، قبلت رأسك الزكية وانطلقت لمنزل الأسرة أحمل لهم نبأ استشهادك، أرجوكِ أن تتماسكي يا أمي.. فابنك قد ارتقى شهيدا عند ربه، لا تجزعي يا أماه.. فهو الآن مع الحور العين، ألم تعلمينا حب الدين والوطن.. ها هو ولدك قد قدم حياته فداء لوطنه، هنيئًا لك يا محمود هذه الجنازة المهيبة، التي لم تشهد المنطقة مثيلاً لها من قبل، حتى جنازتك تحولت إلى مظاهرة حب ضخمة، زغاريد ودموع، لا أصدق أني أمشي الآن خلف جثمانك الطاهر لأودعك إلى مثواك الأخير أسابيع قليلة ويحل عيد ميلادك السابع والعشرين، كل سنة وأنت طيب يا أخي الحبيب، لا أعرف ما هي الهدية التي يمكن أن أقدمها لك، ولكن يكفي أن أبشرك بالخبر الذي عرفناه للتو، فزوجتك حامل في مولود ثان.. أعدك بأن نسميه (محمود) لو كان ولدا، ولو كانت بنتا أن نسميها (استشهاد)، وفي كل الأحوال أعدك بأن أولادك سوف يسيرون على نفس طريقك، أعرف يا محمود أنك تشاهدني الآن، أعرف أنك ترى مصر التي لا زالت تنتفض بحثا عن حريتها، أعاهدك بأني سأسير على دربك الذي أضاءته لنا دماءك الطاهرة، ولن أسمح بأن تعود بنا الأيام إلى الوراء، إن كنت قد رحلت عن عالمنا، وأصبحت لك حياتك الخاصة التي طالما حلمنا بها، فلتهنأ يا عزيزي في قبرك، ولتعلم أن كل من يقرأ هذه الرسالة يعاهدك بأن يواصل ما بدأته من مشوار، سنلقاك وكل الشهداء مرفوعي الرأس هناك.. في جنة الخلود. والى أن نلتقي قريبًا، أستودعك الله يا أخي الحبيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أخوك/ محمد سعد أبو العزم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.