كيف يرى الطرف الآخر المشهد في قضية مياه النيل، وكيف ينظر الشعب الأثيوبي إلى ردود الأفعال المصرية تجاه التطورات الأخيرة، والتي شهدت خلافًا واضحًا بين دول المنبع والمصب لنهر النيل حول تقاسم المياه. وصلتني الإجابة على هذا السؤال من خلال مجموعة رسائل من القارئ العزيز "نور حبيب"، وهو مهندس إثيوبي مقيم بيننا، ويتحدث بلغتنا، وقد قام بإرسالها ردًا على مقال الأسبوع الماضي "الشدة المستنصرية بالنكهة الأثيوبية"، ولعله من الأهمية بمكان نشر أهم ما احتوته تلك الرسائل من أفكار، لأنها تعبر عن وجهة نظر الآخر لنا، ورؤيتهم التي تكشف الكثير من الجوانب الهامة للقضية. "بعد قراءتي لمقالك وجدت أنك أول مصري يتكلم بهدوء وعقلانية في قضية مياه النيل بعيدًا عن التعصب، وأقصد التعصب لامتلاك شيء لا تملكه مصر من الأساس، تمامًا كما تدعي إسرائيل امتلاكها الأراضي العربية وتسوق المبررات لذلك، إن وزراءكم يا سيدي يصرحون ليلاً ونهارًا بأن الموقف القانوني لمصر في قضية مياه النيل قوي، وأنا أراه كالموقف القانوني الذي تعتمد عليه إسرائيل في صراعها، النخبة المصرية تعول على اتفاقيات بالية من عام 1929 و 1959، وهى بالية من وجهة نظري لأنها تمت في عهد الاستعمار الذي لم يكن يمثل وطني إثيوبيا، أذكرك بأنه دائمًا ما يؤكد المسئولون المصريون بأن كل الاتفاقيات الموقعة إبان الاستعمار لا تمثل شعوب الدول المستعمرة، وأقرب الأمثلة لذلك الموقف المصري من اتفاقيات المستعمر الأمريكي للعراق، إلا أنهم وبمنتهى التناقض يرون أن تلك الاتفاقيات هي أساسهم القانوني (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون). تكمن المشكلة بصراحة أن النظام المصري الحاكم تأخر كثيرًا في البحث عن حل يخدم مصالح جميع الأطراف، كما يتهرب من تحليل ودراسة الحلول التي تم تقديمها، فمنذ العام 1960 تحاول دول منبع النيل تقديم الأفكار والحلول بهدف التعاون المستمر، ولكن النظام المصري يهتم بالحفاظ على كرسي الحكم، وعلى مصالحه الخاصة، أكثر من اهتمامه بمصلحة شعبه، يجب أن نعترف جميعًا بأن موقف مصر عام 1960 كان أقوى بكثير من الآن لعده عوامل: أهمها أن مصر كان لها دور وتأثير سياسي كبير في دول المنبع، كما كان لها ثقل عالمي لا تملكه دول المنبع في ذلك الوقت، أما الآن فموقف مصر يمكن أن يوصف بالصفر، فالاتفاقيات القديمة الموقعة مع الاستعمار لن تصبح سارية بعد توقيع الاتفاقية الجديدة، كما أن دول المنبع لديها تأثير على الدبلوماسية العالمية يوازي دبلوماسيه إغلاق معبر رفح أمام الشعب الفلسطيني في غزة. في وطني لا نقبل بأن نتعدى على حقوق الآخرين، ولذلك فإن رئيس وزراء إثيوبيا اعترف بأن لمصر الحق في استخدام مياه النيل، ليس حق تاريخي.. كما يدعي النظام المصري، بل حق جغرافي فقط ، فالنيل رغمًا عن دول المنبع سيظل ينبع منها، ورغمًا عن دول المصب سيظل يجري ويصب بها، وبالرجوع إلى الحق الجغرافي في منبعه وجريانه ومصبه يمكن لمصر أن تستخدم مياه النيل، هذا الأسلوب الهادئ المتعقل هو الذي يمكن أن يحل المشكلات، أما إذا بقيت السياسة المصرية ترغب في فرض الفيتو على كل دول النيل في نهر لا تملكه هي بالأساس، وأصرت على تضليل الشعب المصري، ووصف قضية مياه النيل بأنها حياة أو موت بهدف كسب التعاطف الشعبي، عند ذلك فإن التوتر سيبقى إلى الأمد البعيد، إذا اعتمدت مصر على التفكير العقلاني الذي يبحث عن المصالح المشتركة، فإن الحياة في دول الحوض ستكون أكثر من نعيم. دعني أروي لك حكاية وقعت منذ أيام، حينما كنت في زيارة إلى أحد المواقع الإنشائية بحكم عملي كمهندس، قابلت هناك بعض الزملاء المصريين، وعندما عرفوا بأني إثيوبي كان سؤالهم مباشرًا لي: ماذا تنوون فعله بمياه النيل؟ وكانت إجابتي ببساطة أن النيل هبه إلهية مشتركه لنا ولكم، ومن المفترض أن نستخدمه معًا، عندها نظر إلي الآخر بغضب وقال: ولكن إذا حدث ذلك فسوف نموت من العطش، استغربت من حديثه فقلت له: أتعرف أن كمية المياه التي تضيع من مصر سواء بالبخر، أو بوصولها للبحر المتوسط تصل إلى 50%؟ فوجئت بالآخر يقسم بأننا لن نتخلى عن قطرة واحدة من المياه، وإذا رفضتم فلدينا فرق مظلات وصاعقة تجيد التعامل معكم، وتدمر كل سدودكم، بل وتدمر "أديس بابا"، عند هذا الحد اعتذرت عن استكمال الحديث الذي بدا متعصبًا ومتعاليًا، ويعبر عن تأثر بالإعلام الحكومي، الذي خدع الشعب وصرفهم عن فشل السياسة المصرية في التفاهم والتواصل مع جيرانهم من أفريقيا. في وطني نؤمن بأن لكل مشكلة حل، ولكن البداية الحقيقية تكون عندما نتفهم المشكلة، وتتواجد الرغبة الحقيقية في حلها، وليس التظاهر بذلك وخداع الآخرين، ويبقى التعامل الشفاف في هذه القضية هو الحل الأوحد والأكثر فائدة لصالح الشعبين المصري والأثيوبي" انتهى كلام المهندس "نور حبيب".. وهو الكلام الذي دفعني إلى المزيد من البحث في وجهة النظر الأخرى، من خلال العودة إلى ملفات الوضع القانوني لمصر، وعلاقة البنك الدولي بالمشروعات الأثيوبية، بالإضافة إلى متابعتي لكل ما تكتبه الصحافة الأثيوبية عن مصر، وعن مياه النيل، وكيفية تعاطيها معها، فالقضية تحتاج إلى رؤية هادئة ومختلفة لفهم أبعادها والتعامل السليم معها، وهو ما سنتناوله بمزيد من التفصيل في الأسبوع القادم إن شاء الله. [email protected]