يحتفي التيار القومي العربي منذ بعض الوقت بمحطة رئيسة في مساره هي ثورة يوليو 1952، التي ازدحم الإعلام بكتابات عنها؛ دوافعها، ومقاصدها، والتحديات التي جابهت المشروع القومي العربي منذ بدايته، ومنها الإرث السياسي والثقافي لحقبة ما قبل الدولة القومية، الذي جاءت الثورة العربية لتتعامل معه، ولتحل مفاهيم جديدة محله. ومن العناوين التي ظهرت وشكلت محاور نقاش هي، دخول الأتراك في الحياة السياسية للعرب وتقويض العصور الذهبية العربية، والانعكاسات الثقافية السلبية للحقب التركية. لم تُضِف الكتابات إلى كراريس الفكر القومي العربي أكثر مما قيل في مطلع وأواسط القرن الماضي، لكنها مناسبة للوقوف عند مفاهيم وإن طواها الزمن إلا أن لطفوها على السطح من جديد مساس بمستجدات استراتيجية؛ منها العلاقة بالدولة التي أصبحت القوة الإقليمية في المنطقة، ودورها في إخراج الفصل الختامي ثم القطيعة بين العرب مع الأتراك في القرن الماضي، في وقت يمران فيه بعرس ثقافي وسياسي، ويبحثان عن استئناف العلاقة التاريخية بعدما ظنا في لحظة كل الظن أن لا تلاقيا. بعبارة أخرى، هي مفاهيم الحقبة التي كانت المزرعة التي نبتت وأينعت فيها المغالطات والمغالطات المضادة. هذه المزرعة ما لم تستصلح تربتها فلن تُخرج إلا نكداً، وستبقى المغالطات ضالة ينبشها المتصيدون في الماء العكر كل حين. سبب آخر، وهو أن تلك المفاهيم باتت تتقاطع مع مفاهيم حقبة جديدة ظهرت علاماتها الصغرى والكبرى، هي الحقبة الإقليمية، ومن ثم فإن الحكم عليها لا تقرره المدارس الفكرية والقومية، وإنما حسابات المصلحة الإقليمية، وهو ما عليه الحال في الكتل الإقليمية العالمية الرائدة، حيث تطأ المدارس القومية والأحزاب السياسية الوطنية على كبريائها الفكري والقومي من أجل مصلحة إقليمية أو عالمية أوسع، وقدرة على الصمود أمام تحديات تعجز الدول عن الوقوف أمامها منفردة، بل هي تنزع إلى الانتقائية في التعامل مع فصول تاريخها ليستقيم مسارها الإقليمي، وهو ما فعلته أمم أوربا لإقالة تناقضات عن طريق كيانها الإقليمي. أي أن أوربا تزيح التاريخ لينفتح طريقها الإقليمي، ونحن نستدعي التاريخ لينفتح طريقنا الإقليمي. وفي ما يلي محاور نقاش جرى بين لفيف من مثقفين وأكادميين عرب، تناول محطات في تاريخ العلاقات العربية – التركية، وسلط الضوء على جوانب الموضوع. دخول الأتراك في الحياة السياسية للعرب دخل الأتراك في الحياة السياسية للعرب ثلاث مرات رئيسة: الدخول الأول: جاء الدخول الأول في أواخر القرن الثاني الهجري بدعوة رسمية من الدولة الإسلامية العربية (العباسية) لمواجهة تغلغل شعوبي فارسي كان قد بلغ مصافات متقدمة وأصعدة مختلفة. كان التغلغل لا يزال متسربلاً بالإسلام، ومثل امتداداً لمشاريع سابقة الانقلاب الخراساني على الدولة الأموية للهيمنة على الدولة الإسلامية، وتمكن من إيقاع النظام السياسي وبلاط الحكم تحت تأثير نظريات السياسة الفارسية ونمط التفكير الفارسي وحِكَم الأكاسرة. واجتاحت الدولة العربية الإسلامية (العباسية) موجة من الثورات الشعوبية، الفكرية منها والمسلحة، على امتداد الثلثين الأخيرين من القرن الثاني الهجري والقرن الثالث، كحركة سنباذ 136ه، وحركة الرواندية 141ه، وحركة أستاذ سيس 150ه، وثورة بابك الخرمي 202ه وهي أخطر الحركات الفارسية المعادية للخلافة العباسية، واستمرت ما يزيد على عشرين عامًا، واتسمت بدقة التنظيم ودهاء القيادة، والاتصال السياسي بالأرمن وغيرهم، ومن مبادئها: الإيمان بالحلول والتناسخ، (إدعى زعيمها بابك ادَّعى الألوهية)، المشاعية المزدكية في الأموال والأعراض، ضرورة التخلص من السلطان العربي والدين الإسلامي. وقد ألحقت العديد من الهزائم بالجيش العباسي، وصاحبها تفش لأدب الزندقة والمجون، وظهور حركة أدبية مزدكية قوية أيقظت الروح القومية الفارسية عند معتنقي الإسلام من الفرس. أمام هذه الأزمة السيادية اتخذ المعتصم قراراً بتصحيح التوازن الإقليمي، فقرب الأتراك من دائرة صنع القرار، ولم يكن قد مضى على وصولهم من موطنهم الأصلي في أواسط آسيا وقت طويل، وكانوا لا زالوا على هيئة فرق عسكرية، وقد وصف أحد الباحثين الغربيين التحول العميق في المشهد السياسي بالقول:"وكأن القادمين الجدد كانوا على موعد مع القدر، ومع دور شاغر متقدم ينتظرهم". الحقيقة الأهم في هذا التطور، هو أن القرار العربي (العباسي) كان محطة شكلت من الناحية الواقعية إن لم تكن الرسمية بداية نهاية الحقبة العربية في النظام السياسي للحضارة الإسلامية، إذ أن ما تلاها كان نظماً سياسية تبوأت فيها شعوب مسلمة من غير العرب (سلاجقة، شركس، أكراد) مواقع سياسية أمامية بوجود الخليفة العربي (العباسي) وبوجود الراية الإسلامية العربية، واستمرار العرب في أدوار سياسية وفكرية واستشارية من مواقع خلفية. وحرصت هذه النظم (غير العربية) على رفع العلم العربي (العباسي) كلما فتحوا مصراً أو حرروا أرضاً، كما في الفتوحات السلجوقية، وفي الحروب الأيوبية ضد الصليبيين والعبيديين التي كان يزف الأيوبيون بشائرها إلى الخليفة في بغداد، ويربطون إنتصاراتهم به رسمياً، مع كونهم هم أهل الشوكة الحقيقيون وليس الخليفة. في مفترق سياسي لاحق، وبعد زوال الدولة العباسية وشغور العالم الإسلامي من دولة تجمع شظاياه، ترسخت ظاهرة النظم السياسية الإسلامية غير العربية التي تحكم من وراء واجهة عربية، بقيام دول كالمماليك في مصر والشام والحجاز، أعادت الخلافة العباسية على نحو صوري وحرصت على رفع راية عربية فوق مؤسسة الحكم، وهم شعوب من بلدان مختلفة كتركستان، وشبه جزيرة القرم، والقوقاز، وآسيا الصغرى وبلاد ما وراء النهر. وفي مفترق أخير، دخل النظام السياسي الإسلامي غير العربي طوراً جديداً بقيام دول برايات إسلامية جديدة غير عربية كالعثمانيين الذين حكموا العالم الإسلامي أكثر من أربعة قرون حتى قيام الدولة العربية القومية. متغيرات صاحبت الدخول التركي مثّل دخول الأتراك تحولاً عميقاً في طريقة إدارة الدولة الإسلامية، فهم لم يكونوا أهل إدارة ودراية كالفرس الذين استفاد العباسيون من خبراتهم الإدارية. وطغت في ظل الحضور التركي السمة العسكرية على حساب مؤسسات الفكر والرأي في الدولة وكانت تلك بداية لعسكرتها، وهو الأمر الذي عُد انتكاسة سياسية لم يتعافَ منها الكيان السياسي الإسلامي. إلا أن الحضور التركي رغم الإشكاليات المصاحبة شكل بداية مسار جديد، هو مسار أقلمة النظام السياسي في الدولة الإسلامية، بعد أن كان الدور العربي سمة سائدة في الحقبة الأموية. لم تكن بداية الأقلمة بداية مثالية، وشهد التماسّ السياسي العربي التركي مخاضاً صعباً، وتململت مَدَنية بغداد من بداوة العسكر الترك وفظاظتهم، ما دفع المعتصم إلى بناء مدينة سامراء في 221ه ونقل دوائر الدولة إليها حداً من التماسّ بين الشخصيتين العربية والتركية. لكن المخاض الصعب كان بوابة الدخول إلى قناعة بحتمية الشراكة الإقليمية، وبقناعة وحدة المصير السياسي، لتستمر القناعة ويستمر المسار السياسي الإقليمي في النظام السياسي للدولة الإسلامية حتى مطلع القرن العشرين الميلادي ونشوء الدول القومية، حينما انصرف الجميع من تحت سقف الإقليمية الإسلامية، كل صوب مشروعه القومي الخاص به. يمكن القول: أن الأمة صنعت لنفسها في خضم الأزمة الشعوبية خصيصة جديدة سياسية هي "الإقليمية"، وأسبغتها على شخصيتها إلى جانب خصيصة "العالمية" (العقدية)، التي أسبغها عليها القرآن الكريم منذ اليوم الأول ﴿وما أرسلناك إلا كافة للعالمين بشيراً ونذيرا﴾. وبذلك ولد مفهوم التكامل السياسي في الحضارة العربية الإسلامية بمدلوله الميداني بعد أن كان مدلولاً في النطاق القيَمي والروحي، وقامت شراكة إدارة الكيان السياسي بين العرب وغيرهم من الشعوب الإسلامية، ليكون الرقم 1431 الذي بلغه التقويم الهجري في حقيقة أمره جمع جبري لحقب سياسية تسيّدتها شعوب مسلمة، كانت حصتنا نحن العرب منه قرنان اثنان من الزمن. [email protected] معهد المشرق العربي عضو منتدى المفكرين المسلمين