* "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا..؟" كلمة قالها عمر بن الخطاب لوالى مصر عمرو بن العاص عندما تعدى ابنه بالضرب على قبطى فى سباق لأن القبطى سبق ابن عمرو بن العاص فنهره وضربه إذ كيف به يسبق ابن الأكرمين..؟ لقد لقن عمر بن الخطاب الدنيا كلها والعالم كله إن الإسلام جاء ليحرر البشرية من قيد العبودية وأن المواطنين أمام القانون سواسية بصرف النظر عن هويته ودينه لأن الحق حق والباطل باطل..! فقد انتهى عصر الأسياد والعبيد. والحرية والمساواة هى أساس المواطنة وهى ركيزة الأمن والأمان لأى مجتمع متحضر واعٍ. * لقد كانت مصر دائمًا واحة الأمن والآمان فى العالم كله وكان هذا موضع فخر لكل المصريين فى كل مكان وزمان. وكنّا كشعب مصرى نفتخر بل ونتفاخر بأن الشعب المصري له خصوصية لأن رابطة الدين والدم والوطن والهوية واللغة هى التى تميز هذا الشعب عن غيره من الشعوب وقوة الروابط العائلية بين أفراد هذه الأمة هى التي تجعله منفردًا بتلك الخاصية وبهذه الميزة بين الأمم. ومهما تختلف الأيديولوجيات وتتباين التوجهات وتتناقض المعتقدات إلا إن ذلك كان دائمًا فى محيط الأسرة الواحدة وفى دائرة العائلة الواحدة وتحت راية الوطن الواحد. * وكنت فى فترة من الزمان أشاهد ما يحدث فى البوسنة والهرسك من مجازر لا أخلاقية وفى فلسطين وما يحدث فيها من قصف للأبرياء وقتل بلا ذنب وما يحدث فى لبنان من تناحر واقتتال وحرب طائفية وما يحدث فى الصومال من حرب قبلية وحرب شوارع, ومع شعوري بالأسى والحزن لسقوط ضحايا فى تلك الدول مهما كانت ديانتهم ومهما كانت هويتهم إلا أننى دائمًا كنت أحمد الله أننا فى مصر نحيا على أجمل بقعة على هذه الأرض وأطهر مكان فى هذا العالم. فلا تناحر ولا اقتتال ولا لرصاص ولا قنابل ولا مدافع ولا دماء بل أمن هنا وأمان هناك وكان الراكب يسير من أسوان إلى إسكندرية فلا يخشى إلا الله والذئب على الغنم..! * لكن فجأة انقلب كل شيء وتغير كل شيء وتحول كل شيء وصار الحلم الجميل كابوسًا مزعجًا والأرض الخضراء أرضًا جرداء لانبت فيها ولا ماء. استبيحت الدماء وقتل الأبرياء وأصبحت الجثث فى الشوارع لا يعبأ بها أحد ولا تحرك ساكنًا عند بشر مع أن صورتها تفلق الحجر...! تتراكم الجثث بعضها فوق بعض ولا تجد من يسترها ولا يدفنها ولا يحترم آدميتها مع أن الله كرم بنى آدم لكن يبدو أن الإنسان فى مصر اليوم أصبحت فصيلة دمه "رخيص" ..! وهذا ما يندى له الجبين وما يشيب من هوله الولدان. * لا يمكن أبدًا أن تكون الدماء اليوم فى مصر هى أرخص شيء وأن تكون حياة الإنسان لا قيمة لها ولا حماية لها بل وتصبح روح الإنسان كالريشة المعلقة فى الهواء تذهب بها الريح فى مكان سحيق فى أى وقت شاءت بلا أدنى مقاومة لأنها ريشة لا قيمة لها ولا وزن لها ولا ثمن لها وهكذا حياة المصري اليوم أخف من تلك الريشة وأحقر من تلك الريشة وأرخص من تلك الريشة..! إننا نحتكم اليوم إلى قانون الغابة حيث البقاء فيها للأقوى وليس للأصلح ومن له مخالب أنياب فليقف له الجميع احترامًا وتقديسًا عند عتبة الباب...! * صدمنى بل وأسال الدمع دمًا من مقلتى وأنا أشاهد جثث المصريين أكوامًا بعضها فوق بعض لا قيمة لها ولا قدسية لها ولا حرمة لها على شاشة التلفاز حتى كدت لا أصدق أن تلك الصورة هى من مصر..! وتذكرت قول الله تعالى "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" فظننت أن البلد غير البلد والوطن غير الوطن والعنوان فيه خطأ. لكن المذيع كان يرد على بصوت جهورى قوى صدقنى فأنا أتحدث إليك من مصر حيث الحال غير الحال والناس غير الناس والوطن غير الوطن والأرض غير الأرض. * هل هذه هى حرمة الدماء التى حرمها الله..؟ هل هذه هى حرمة حياة الإنسان التى جعلها الله أكثر حرمة من الكعبة الشريفة..؟ هل هذه هى روح الإنسان التي من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا..؟ لا أشعر بذلك, ولا أحس بذلك. لأن ثمن قارورة الماء فى مصر اليوم صارت أغلى من دماء الإنسان بل صارت حياة المصرى فى وطنه لا تساوى ثمن الرصاصة. لا قيمة لهذا الوطن إلا إذا كان الإنسان فيه له قيمة. ولا ثمن لهذا الوطن إلا إذا كان الإنسان فيه له ثمن. ولا شرف لهذا الوطن إلا إذا كان الإنسان فيه له شرف. ولا كرامة لهذا الوطن إلا إذا كان الإنسان فيه له كرامة. ولا حرمة لهذا الوطن إلا إذا كان الإنسان فيه له حرمة. إن قيمة الوطن ليست بآبار البترول التي فيه تتفجر ولا بينابيع المياه التى فيه تظهر ولا بحقول الغاز التى فيه تطفو ولا بمناجم الذهب التى فيه تكتشف. لكن كل هذه الأشياء تأتى وتذهب ويمكن تعويضها إذا فقدت يومًا ما. لكن قيمة هذا الوطن وشرف هذا الوطن وكرامة هذا الوطن وثمن هذا الوطن تقدر بقيمة الإنسان وقيمة الرجال الذين يعيشون على أرض هذا الوطن، فإذا كان الإنسان لا قيمة له فالوطن لا قيمة له، وإذا كان الإنسان لا شرف له فالوطن لا شرف له، وإذا كان الإنسان لا كرامة له فالوطن لا كرامة له وإذا كان الإنسان ثمنه رصاصة فالوطن ثمنه أقل من ذلك بكثير..! إن الإنسان هو أساس البناء ومحور أى وطن ونقطة ارتكاز أى وطن، فإذا هلك الإنسان وقتل الإنسان واستبيحت دماء الإنسان فهل ننتظر إلا وطنًا تنوح على أرضه الغربان وتعبث بأرضه الجرذان..؟ * إن ما يصدمنى أكثر وأكثر أن تتصفح الصحف المصرية اليومية فتقع عيناك على مقال كاتب يوصف بأنه كبير فى صحيفة قومية توصف بأنها كبيرة فإذا به يحقر من شأن هذا الشعب ويقلل من قيمة هذا الشعب وينزل بكرامة هذا الشعب إلى أسفل سافلين واصفًا إياه بالجهل والأمية والتخلف والمرض. ويزيدك من الشعر بيتًا فلا ينسى سيادته ومعاليه أن يذكرك بأن هذا الشعب لابد له أن يدخل بيت الطاعة السياسية وتفرض عليه الوصاية الاجتماعية لأنه كالصبي الصغير الذي يجب أن توضع أمواله تحت الوصاية حتى يكبر..! ومن يعترض على هذا الفكر ومن يختلف مع هذا الطرح ومن يخالف هذه الفكرة فالسجن فيه تهذيب وإصلاح لمن أراد أن يتذكر أو أراد تهذيبًا وتأديبًا. ونسى سيادته هو ومن سار على نهجه واقتدى بفكرته وانجر وراء مقالته إن هذا الشعب الذي يسيء إليه ليل نهار هو بنفسه يأخذ راتبه الفخم الكبير من شحمه ودمه وأنه لولا هذا الشعب ما ركب تلك السيارة الفاخرة وما اشترى هذا القصر المنيع وما كان له اسم فى عالم الصحافة...! أرأيتم كيف أن شعبنا العظيم يظلم بالليل والنهار من نخبته التى تتبرأ منه كما يتبرأ السليم من مبارك الإبل الجربى..! * لابد لهذا الشعب العظيم أن تحترم إرادته فلا يتعدى عليها ويحترم اختياره فلا تلغى بجرة قلم ويحترم حقه فى حريته وتقرير مصيره بلا وصاية أو ضغوط أو املاءات من أحد حتى تحرمنا الأمم الأخرى وتنظر إلينا بعين الاحترام والتقدير لا بعين الاحتقار والتكدير..! وإن دماء هذا الشعب يجب أن تكون خطًا أحمر فلا تهدر بلا قيمة أو ثمن ومن يتعدى هذا الخط ويتجاوز حدوده ويسفك دماء هذا الشعب فلابد من تقديمه للمحاكمة السريعة مهما كان شأنه ومهما كانت منزلته لأن دماء المصريين فوق كل اعتبار فلا تذهب مع أدراج الرياح هباء منثورًا بلا ثمن وتحفظ القضية فى ملف النسيان حتى حين..؟ * قولًا واحدًا: إن الشعب المصري قد استرد كرامته وحريته بعد ثورة يناير المجيدة من بين أنياب الطغاة ومخالب الفاسدين بعد عقود كثيرة من الاستبداد والاستعباد ولن يستطيع أحد اليوم مهما أوتى من قوة وبطش ومهما امتلك من وسائل البطش وأدوات التنكيل والوعيد والتهديد أن يعيد الشعب المصري إلى ما قبل ثورة يناير لأن الشعب الذي حطم خط بارليف فى حرب أكتوبر العظيمة قد حطم أيضًا حاجز الخوف فى ثورة يناير، وليست حريتنا منحة من أحد أو هبة منه للشعب فمن يملك المنح يملك المنع...! وكرامتنا وحريتنا هى أساس عزتنا فإن تنازلنا عنها فقد تنازلنا عن شرفنا وباطن الأرض أولى بنا من ظاهرها. فحريتنا أساس كرامتنا وعزتنا وقوتنا. اللهم بلغت اللهم فاشهد.