غريب ومريب ما يجرى على أرضك يا بلدى، فقد فقد الجميع عقله وأصبح الجنون والغضب والرفض والإقصاء، شعارات تلك المرحلة من عمر بلادى، فبين حشد وحشد مضاد ومبالغات عددية لا تعتمد إلا على الإخراج التليفزيونى أو التكرير الممل لبيانات يعلم الجميع، أنها إذا قيست بميزان العقل تحولت إلى فضيحة للأسف سقط فيها الجزء الأكبر من الإعلام الذى لم يكن حرًا فى طوال حياته إلا فى مواجهة المحترمين، وانظروا إلى أرض الواقع، على سبيل المثال قنوات التليفزيون المصرى التى هى ملك للشعب وينفق عليها من دماء الشعب تجدها لا ترى إلا فى اتجاه ما تريده عسكرة المرحلة، ولا يعلم أحد هل عاد الرقيب ليملى على الإعلام ما يذاع وما لا يذاع، مثلما كان يحدث فى فترة سابقة أم هو استجلاب الفرعون بعد أن فشل الرئيس الإخوانى فى أن يكون هذا الفرعون، فانساقت نخبة كبيرة من المصريين فى استحضار الفرعون لإحساسهم أنهم لا يعيشون بغيره، ولم تكتف القضية عند ذلك، بل امتد أن يتخلى تليفزيون البلاد عن مهمته التى يتلقى العاملون فيه أجرهم لقائها، وهى نقل الخبر والمعلومة الصادقة فى وقتها إلى المواطن، فتجد أحداثًا حسامًا تحدث وتصل إلى سقوط قتلى ودماء وفضائياتنا وتليفزيوننا ودن من طين وأخرى من عجين. لم يكتف إعلامنا ونخبة تلك المرحلة السيئة التى تمر بها بلادى بمجرد نقد طرف على خلاف معه بل سقطوا فى أتون الشخصنة وأصبحت قنواتنا الخاصة وحلقاتها وحفلاتها الليلية حفلات غل ونشر للكراهية وسوق المبررات وصولاً للدفاع عن سقوط الدم والقتلى لا لشىء إلا أنهم من الطرف المخالف وفقد الكثير للأسف ليس فقط الحياء، ولكن المروءة والإنسانية، فمن كانوا يتبارون وتنتفخ أوداجهم غضبًا للدفاع عن أحدهم حين تم سحله هم أنفسهم من يستنكرون على من سقطوا من إخوانهم معتصمى رابعة برصاص الغدر، وبدلاً من أن تحرك الدماء الجزء الباقى من إنسانيتنا رأينا أولئك يتسابقون فى تبرير قتل هؤلاء، وأن القتلى هم السبب، وإلا ما الذى أتى بهم إلى تلك الأماكن، إلى هذه الدرجة وصل الاستهتار بالمصريين من قبل الإعلام دون أى مسئولية أو محاسبة أو ميثاق شرف أو دمعة ألم، نعم دمعة ألم، لأن المصاب وكل قطرة دم تسقط من أى مصرى هى مصدر ألم وإهانة لمصر كلها التى يتبارون فى التفريق بين دماء أبنائها. ونظرة بسيطة إلى نخبتنا السياسية، نجد أنها وعت الدرس من منطق عدو عدوى صديقى، فكرهًا فى الإخوان يتم الاحتفاء بالعسكر وبالسيد الفريق الذى لم يتحقق أى وعد من وعوده بعدم الإقصاء أو المصالحة، والذى يطلب بنفسه تأييدًا شعبيًا من الشرفاء – وكأن الفصيل المعارض يفتقد تلك الخاصية للقضاء على ما سماه إرهابًا، وهى لحظات تتغلب فيها الروح الانتقامية وغرور القوة فيندفع على أثرها الأمن والداخلية فى التعامل مع المعتصمين بالقوة المفرطة التى خلفت أعدادًا من الضحايا لم يحدث فى مصر من قبل حتى أيام الاحتلال، وبدلاً من أن نجد اعتذارًا أو إقالة أو محاسبة مسئول وجدنا مؤتمرات السيد وزير الداخلية ليست إلا مزيدًا من التهديد وسوق المبررات ومحاولة التنصل، وكأن الدماء وحرمتها ليست بذات الأهمية فى تلك المرحلة، طالما أنها دماء المؤيدين للطرف الآخر، ما يجعل المرء يصاب بالجنون أن يحدث كل ذلك فى شهر يترصده المسلمون من العام إلى العام بحثًا عن رضوان الله ومغفرته، فهل من يغترون بغرور القوة من منفذين ومروجين وداعمين وإعلاميين ومخططين سيلقون الله بوزر هذه الدماء، وماذا هم قائلون عندما يسألون. إن ما يحدث الآن وللأسف، الكثير من نخبتنا لا يدركه أو ربما يدركه ويتعامى عنه، هو عسكرة الوعى وإعادة صناعة الفرعون الذى اشتاق البعض للعمل فى ظله بعد، إن لم يستوعب معنى ثورة يناير الرائعة التى جعلت كل مصري يتنفس الحرية ويذوقها، ولن يرضى لها بديلاً، فقد ذاق طعم الحرية ولن تعيده أى قوة إلى أزمنة القهر التى يمهدون لها إعلاميًا وسياسيًا، بالرغم من مخالفة ذلك لأبسط مبادئ الديمقراطية التى نبحث عنها، ولكن لأن شعار المرحلة هو الانتهازية والوصولية، فلا بأس من تقسيم المصريين إلى جزأين، أحدهما دمه حرام ينتفض الجميع لأى جرح يصيب من ينتمون إليه، وتحتفل بهم طائرات الجيش المصرى وتوزع عليهم الوجبات أثناء اعتصامهم، بينما جزء آخر لا يلقى إليه إلا التهديد دون أن نجد رغبة أو تحركًا جادًا لوأد الفتنة واحتواء هذا الفصيل، لأن غرور القوة هو العرف السائد، ونسى أولئك أن الدماء لها حرمة ولها وضعها الخاص، فقد تكون من يطلق الرصاصة الأولى، ولكن أبدًا لا تستطيع أن تضمن أنك ستطلق الأخيرة، هكذا علمنا التاريخ. وتبقى مصر، مصر الجميع، نخبة وإخوانصا وإسلاميين وأقباطًا وليبراليين وأقليات، تبقى مصر العظيمة التى وضعها الجميع فى مرتبة متأخرة على أجندة أولوياتهم، ولم يجعلوا استقرارها وحرمة دماء أبنائها وأرواحهم مقدمة على مشاعر الانتقام والإساءة، ونسى الجميع أن الدم الأحمر إذا سال فشلت الدنيا كلها أن تعرف هو دم لإخوانى أو سلفى أو قبطى، لأن الشىء الوحيد المؤكد أنه دم مصرى أريق بلا داع، فمتى نفيق ونقف أمام أنفسنا ونقدم مصر على ما سواها.. اللهم الهم المصريين جميعًا وضوح الرؤيا واحفظ شعب مصر من الفتن.. آمين درويش عز الدين