لا أستطيع كأحد أبناء الحركة الإسلامية إلا أن أشكر الإستبداد الذى يلف عالمنا العربى ، ويحاصر كل أشكال الحركة الإسلامية فيه ، بغض النظر عن كونها حركات سياسية أم اجتماعية ، فقد ساهم هذا الإستبداد وساهمت الحالة المأساوية التى أوجدها ، فى تدعيم وتكريس وتبرير دعوتنا إلى العودة إلى الدين ، وحركتنا الهادفة إلى إقامة دولة اسلامية تحكم بالعدل ، وتخرج شعوبنا من مآسى الجوع وذل الفقر والحاجة . كما ساهمت هذه النظم فى ترسيخ القناعة بفشل نموذج الحكم العلمانى فى منطقتنا ، وذلك لأن هذه النظم قد ربطت مصيرها بمصير الولاياتالمتحدةالأمريكية ، ووقفت بصراحة فى طريق غضب الله الذى لا يقاوم ، وسنن الله التى لاتقبل التبديل أو التحويل . فقد ساهم ظلم وقهر المستبدين لشعوبنا ، فى اختصار كثير من الجهود اللازمة ، لكشف مدى ظلم النظم الوضعية التى لا تستند إلى الدين ، ولا تنضبط وفق قوانينه ، ومدى نصاعة وشرف العدل الذى ندعو إليه باسم الإسلام ، والذى يشمل كل طبقات وطوائف المجتمع ، ولا يقتصر على بعض فئاته . كما وفر علينا ذلك القهر جهودا كبيرة ، كانت ضرورية لكشف حقيقة العلمانية ، وبشاعة نموذجها فى الحكم ، والذى يجب أن توصد أمامة كل أبواب المنطقة ، وألا تفتح له مرة أخرى . . فإذا كان الحكم العلمانى قد دخل بلادنا بقوة وقهر الإستعمار ، فإنه لم يستمرفى بلادنا إلا بالحديد والنار . . بل إن الحكم العلمانى قد أحرج كل دعاة العلمانية فى عالمنا العربى ، وجعل فكرتهم ودعوتهم مفرغة من النموذج ، فضلاً عن الرصيد السلبى الذى تركته تجربتها فى الحكم ، والذى وضع رؤوس دعاة العلمانية فى الوحل والطين . . . . وإذا كنا نشكر الإستبداد مرة لأنه وفر علينا كل هذه الجهود ، فإننا نشكر الأستعمار الغربى الجديد وأبنته المدللة إسرائيل مرتين : الأولى لأنه لايزال يقف بكل قوة داعماً للأنظمة المستبدة ، ومدافعاً عنها وعن استمرار قهرها وتجويعها لشعوبها ، فدمر بذلك أهم أدواته التى كان يستعملها فى غزو بلادنا أو التدخل فى شئونها ، وهى أدوات نشر الديمقراطية و حقوق الإنسان . والثانية لأنه بدأ حملات استعمارية جديدة ، كما فى أفغانستان والعراق ، وتصاعدت معها عمليات دعمه فى الأونة الأخيرة لغطرسة وبشاعة الإحتلال الصهيونى فى فلسطينالمحتلة ، وهو ما جعل شعوبنا تقترب أكثر من أى وقت مضى من إدراك طبيعة الصراع المفروض عليها وإدراك أهم أبعادة . لقد أفادت الحركة الإسلامية خلال الثلاثين عاما الماضية ، من التدخل الغربى السافر فى شئون البلاد ، والذى كشف عن مدى خضوع وهشاشة تلك النظم ، أمام هذا النشاط الإستعمارى الجديد ، وهو ماساهم فى بلورة فكرة الحركة الإسلامية لدى الشعوب العربية ، وذلك على أساس أن أحد أساسيات الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة ، تعتمد على ضرورة نهوض الأمة فى وجه الهجمات الإستعمارية التى تهدد الدين ، وفى وجه عمليات التغريب التى تقوم بها النظم التابعة للإستعمار ، كما يأتى على رأس قائمة أولويات أسباب وضرورات النهوض ، هو الوقوف فى وجه الهجمة الإستعمارية الجديدة ، وفى القلب منها الهجوم السافر علي فلسطين ، والذى لم يترك حرمة إلا انتهكها ، ولم يدع مقدساً إلا وأعتدى عليه ، ولم يترك أى مساحة لحركة النظم العربية الحليفة ، بل لم يترك لها أى مساحة للكرامة ، وهاهو اليوم يهود القدس ، ويحوم حول الأقصى ، ليضع الأنظمة فى مواجهة مباشرة مع شعوبها . لم يدرك المخططون للحملات الإستعمارية الجديدة الخطأ الفادح الذى يرتكبونه هذه المرة ، فبرغم أن هذه الحملات جاءت مضغوطة بالوضعية الجديدة التى تعيشها الأمة ، وبالموقع الجديد الذى أصبحت تحتلة الصحوة والحركات الأسلامية داخل مجتمعاتها ، وأنها قد أضطرت إلى التدخل بقواتها بعد أن رأت الفشل الذريع لحكام المنطقة الذين يحكمون بالوكالة ، إلا أن ذلك قد أوقعها فى فخ أكبر ، حيث إمكانيات تحول حركات الدعوة الإسلامية إلى حركات مقاومة ، وهو ما ظهر فى أفغانشتان وباكستان والعراق والصومال ، وتحول حركات الدعوة الإسلامية إلى نصير ومساعد لحركات المقاومة ، ولا سيما إذا كانت فى فلسطينالمحتلة . ومن الطرائف وفق هذا التحليل ، أن يكتشف الأمريكان بعد توغلهم فى دراسة أسباب هذه الثورة الإسلامية التى تشهدها المنطقة ، وهذا الغضب المتصاعد تجاه الولاياتالمتحدة : أن بعض النظم الحليفة قد أوغل فى تعذيب واضطهاد الإسلاميين فى الثمانينات والتسعينات ، مما أدى إلى فرارهم خارج البلاد ، ولاسيما أفغانستان ، التى انتقلوا منها بعد ذلك ليديروا معركة مفتوحة مع الولاياتالمتحدة ، التى أكتشفوا من هناك أنها الداعم الرئيس للحكومات التى تضطهدهم ، كما اكتشف الأمريكان أيضا أن الذين أداروا أهم جبهات الجهاد فى البوسنة والشيشان والصومال ، هم فارون من قبضة الإستبداد. فهل بعد ذلك يمكن أن يكون أمام المهتم بشئون الحركات الإسلامية غير شكر الإستبداد مرة ؟ وشكر الإستعمار مرتين ؟ ؟