بقدر ما كان التقرير الأول والذي صدر منذ عامين بمثابة صدمة قاسية، جاء التقرير الأخير للتنمية الإنسانية العربية والذي صدر في الأيام الماضية محاولة لتفسير وتحليل هذه الصدمة، أسبابها ومسبباتها.. وإذا كنا قد فوجئنا ثم سرعان ما نسينا كالعادة الحقائق التي أوردها تقرير التنمية البشرية العربية الأول حين قال لنا إن بلدا أوروبيا صغيرا وفقير نسبيا بالمعايير الأوروبية مثل أسبانيا ليست فرنسا أو انجلترا أو ألمانيا وتعدادها 48 مليوناً ينتج أكثر مما ينتجه العالم العربي "290 مليوناً" بما في ذلك البترول والمواد الخام.. وهل ينتج العالم العربي شيئا آخر؟! واذا كنا قد قمنا بدعك مؤخرة الرأس بشدة، ثم سرعان ما عدنا إلي حالة الكسل الذهني والبدني حين عرفنا أن بلدا مثل اليونان قام بنشر وترجمة أعمال فكرية وأدبية وعلمية وفنية وثقافية في عام واحد "2001" أكثر مما نشر وترجم العالم العربي كله من المحيط الي خليج طوال ألف عام، أي منذ أيام الخليفة العباسي المأمون بن الرشيد حتي اليوم. لقد فجعنا التقرير الأول، ولكننا والحق يقال سرعان ما استعدنا عافيتنا المتبلدة حين أشار إلي الموبقات الأربع التي يستمتع بها العالم العربي وهي فقدان الحرية والديمقراطية ووجود الأنظمة الفردية المستبدة واضطهاد المرأة، والفقر الشديد رغم أموال البترول المتدفقة والمليارات من البترودولار التي تنعش البنوك والمؤسسات والبورصات الأوروبية والأمريكية. ولكن التقرير الأخير كان رفيقا أو حاول أن يكون كذلك حين ركز علي محاولة تفسير وشرح وتقديم الاسباب والاجابة علي اسئلة أبي الهول وألغازه وهو رابض علي أبواب مدينة طيبة يقتل كل من لا يستطيع تقديم إجابة صحيحة.. وراح تقرير التنمية البشرية العربية الأخير يشرح في البداية فكرة الاستبداد "depatism" وهل هي حقا طبيعة شرقية وبشكل اخص عربية إسلامية مثلما تروج بعض المصادر والأوساط أم أن في الامر تجنيا واضحا ومقصوداً. وبهذه المناسبة فحين كتب كارل ماركس عن المجتمعات الشرقية والهيدرولوجية ونمط الانتاج الآسيوي المرتبط بهذه المجتمعات أكد المفكر الألماني ارتباط هذا النمط بالاستبداد الشرقي، وقد رد عليه مفكر ألماني آخر هو فردريك انجلز ففند الخطأ في ربط الاستبداد بالمجتمعات الشرقية، وأكد انجلز أن الاستبداد الأوروبي في القرون الوسطي يعتبر أقسي أشكال الاستبداد الذي عرفته البشرية حيث الكنيسة المستبدة تحكم باسم الرب وتحرق وتقتل كل من له قدرة علي التفكير تحت دعاوي التكفير، والملوك والاباطرة يحكمون ويتحكمون في الأرض وخلق الله باعتبارهم ظل الله علي الأرض، وهم وحدهم يجسدون الوطن الذي اعتبروه ملكاً وقناعاً خاصاً لهم.. وحسنا فهل التقرير حين فند المقولة الخاطئة التي تحاول ربط الاستبداد بالطبيعة الشرقية وبالدين الإسلامي بشكل خاص، فالشعوب العربية كانت ومازالت أكثر الشعوب تعطشا للديمقراطية وسعيا اليها فمصر مثلا كانت أول دولة تقاوم وتخرج من عباءة استبداد الامبراطورية العثمانية قبل دول أوروبية كثيرة كانت تسيطر عليها. كما شهدت المرحلة بين الحربين العالميتين وفي منتصف الخمسينيات من القرن الماضي حركات وأحزابا وتجمعات ديمقراطية حقيقية فرضت شكلا من أشكال الليبرالية الفكرية خاصة أن هذه الأحزاب والشخصيات الديمقراطية قد أنتج لها أن تحكم ولو لفترات محدودة فقد كان هناك حزب الوفد في مصر وزعماؤه سعد زغلول ومصطفي النحاس، كما كان هناك خالد العظم وحزبه الوطني الديمقراطي في سوريا كذلك كامل الجادرجي وعدنان الباجهجي في العراق، وكما كان هناك مفكرون ليبراليون كبار أشاعوا قضايا الحرية والديمقراطية من أمثال طه حسين ولطفي السيد والكواكبي. لكن هذا التيار الليبرالي الديمقراطي البارز في العالم العربي فرعان ما حوصر بفضل عاملين كان للقوي الاستعمارية دور أساسي فيهما، وهما إنشاء دولة اسرائيل القائمة علي أساس ديني ونزعتها العدوانية التوسعية الأمر الذي فجر المشاعر الدينية والوطنية وأفرز الاتجاهات المتطرفة بعد ذلك، ثم النفط ودور الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص في دعم نظم صديقة تحمي مصالحها النفطية في الأساس بغض النظر عن توجهاتها الفردية والدكتاتورية. وهكذا مثلما يشير التقرير عانت قضية الحريات في العالم العربي من محاصرة حركات سياسية عرقية ذات عمق جماهيري واسع، حضرها التيار القومي والتيار الإسلامي، واللذان لم يضعها الحرية والديمقراطية علي رأس برامجهما الفعلية.