ذكر لنا أحد عمالقة الموسيقى والمغنى المعاصرين - وهو من أصل تونسي - اثناء احدى زياراته المتكررة إلي برلين – ان الرئيس الحبيب بورقيبة – أو بورجيبة – باللهجة التونسية كانت له فلسفة خاصة في الحكم، نابعة من اعتقاده انه العربي الأوحد الذي يفهم في السياسة وأصول الحكم، ، بل ولم تنجب المنطقة العربية من هو في حكمته وذكائه والمعيته السياسية – وعليه فقد ظل الرجل يحكم في تونس ثلاثين عاماً كاملة حتى أصابة الخرف المطلق – والى حد انه في آخر عشر سنوات – على الأقل - لم يكن أحد في أي من المؤسسات والأجهزة التونسية يأخذ أوامره ونواهيه على مأخذ الجد الا فيما يخص تكرار اذاعة بعض الأغاني القديمة لبعض المطربين المحببين لديه، وكذلك تكرار اذاعة خطاباته التي كان يسب فيها هذا أو ذاك من الحكام العرب باعتبارهم غنم على حد قوله لا يفقهون شيئأً، وحقيقة – والكلام هنا للفنان التونسي - فقد كان تكرار اذاعة الخطب المليئة بالسباب تتم بشكل مقصود وذلك لاقناع العالم – والعالم العربي على وجه الخصوص – بأن الرجل بات في حالة من الخرف لا شفاء منها على الاطلاق. اصبح الرئيس زين الدين بن على رئيساً للوزراء – بعد ان كان مجرد وزير داخلية - في الثاني من اكتوبر عام 1987 ، ولم ينتظر سوى شهر واحد تقريباً وقام بانقلابه السلمي على الحبيب بورقيبة في السابع من نوفمبر في نفس العام ، وأضاف الفنان التونسي المحبوب ان الرئيس الحالي زين الدين بن على حين دخل عليه ليبلغه بأنه قد قام بانقلاب عليه وقرر كذلك انتقاله للعيش بكرامة حتى آخر يوم في حياته في مدينة المنستير مسقط رأسه – كان بورجيبه يستند على عصاه – عكازه – فقام يسب بن على وحاول ضربه بالعصا لتأديبه ومنعه عن الاسترسال فيما يقول، فما كان من بن على سوى احتضانه وطلب من حراسه نقله إلي المنستير والاعتناء به. وتسلم الحكم واعداً الشعب بالبقاء لفترة واحدة فقط ، و بالديموقراطية والتغيير والاصلاح و...محاربة الفساد والفاسدين ! وحقيقة فانه لم يكن هناك تفسير لإصرار بورجيبة على الاستمرار في الحكم الا قناعته حتى النهاية بأنه الأصلح الوحيد لادارة شؤون الحكم، وانه لا يجد من يصلح لتحمل الأمانة من بعده، علاوة على عدم تجرؤ أحد على ابلاغه بأنه قد بات من المخرفين ، وخاصة وانه كان يضحك حين كان البعض يبلغونه – وبشكل مقصود – ان الناس باتوا يطلقون عليه بور خيبة وليس بورجيبة.. . كان لا بد من سرد تلك القصة قبل التعرض لما آلت اليه نظم الحكم البورجيبيه – او البورخيبيه لا يهم - في المنطقة العربية ، حيث " كلبشت انظمة الحكم في دولنا العربية معلنة عدم التخلي عن الحكم الا بعد صدور قرار الرحمن بالانتقال إلي العالم الآخر، لا ينقص من عمرهم في الحكم لحظة واحدة، برغم الخرف الحيسي إلي جانب الأمراض الأخرى التي اصابت معظمهم وجعلتهم في حالة تيبّس جسدي وعقلي، يستدعي زيارة أوروبا بين الفينة والأخرى للبحث عن دواء يشفيهم من أمراض لا شفاء منها- في هذا العالم - ولهم في الحبيب بورقيبة اسوة حسنة المصيبة الكبرى تكمن في انهم يحكموننا بكل مساوئ بورقيبة دون مزاياه، فالرجل – رحمه الله – الذي ولد في الثالث من اغسطس عام 1903 ، وتسلم الحكم في الخامس والعشرين من يوليو عام 1957 ، لم يجعل الفساد العظيم ربيع قلبه وقلب ابنه الوحيد ، برغم قدرته على ذلك، واستمراره في الحكم لثلاثين عاماً كاملة حيث اقدم الشعب التونسي الشقيق على الموافقة على تنقيح الدستور في الثاني عشر من سبتمبر عام 1974 وتنصيب بورقيبة رئيساً للجمهورية مدى الحياة باعتباره الزعيم الملهم، وبالرغم من ذلك – وبالرغم ايضاً مما يقال عن سطوته وجبروته وتفرده بالحكم هو والسيدة زوجته وسيلة بنت عمار والتي كانت الحاكم الفعلي لتونس في آخر عشر سنوات من حكم بورجيبه فقد حرّم الرئيس بورقيبة على ابنه الوحيد الاقتراب من املاك الدولة، او التربح بأي شكل من الاشكال ، على عكس كل البورقيبيين الحالييين من المحيط الهادر إلي الخليج الثائر ، ولذا أحبه الشعب وحزن عليه عند وفاته كذلك فقد كان من مزايا الرجل، انه لم يكن يخدع نفسه، فقد كان مقتنعاً تماماً بصلاحيته للحكم، وان السنين منحته حكمة لا يعادلها سوى حكمة ايوب ، وخاصة وقد كان من المتعلمين حيث درس القانون والفلسفة وعلم النفس والعلوم السياسية في فرنسا في حين ان البورقيبين الحاليين يعلمون تماماً انهم لا يفقهون الا في البيزنس القائم على العمولات والوساطة وليس على التجارة أو الصناعة، كذلك يعلم هؤلاء ان الشعب يعلم انهم لم يتعلموا في حياتهم الا القليل مقارنة بغيرهم، علاوة على انهم باتوا من الأميين، بعد ان نسوا تماماً القراءة، ولم يعد يشغلهم في هذا العالم الا قراءة الارقام في حساباتهم البنكية مزية أخيرة تفوق من خلالها بورقيبة الأصل على البورقيبييين الصورة، حيث لم يقدم الرجل في حياته على صبغ شعره وشد جلده ونفخه ولو لمرة واحدة من باب التجريب، على عكس حكامنا الأشاوس الذين لا يغادرون غرف نومهم الا بعد الاطمئان على لون الشعر الأسود الغطيس، ولون البشرة الوردية، باعتبار انهم ما زالوا في عمر الزهور. فليرحم الله الحبيب بورجيبة بكل مآسيه، وليريحنا من البورقيبيين المتيبسين الجدد [email protected]