للعمل المؤسسي أهمية كبرى في حياة الأمم والدول والشعوب، لأنه معلم التحضر وضمان الاستمرارية ورمز الجدية في الأعمال كلها، ومن ثم كان مقياس تحضر شعب من الشعوب أو أمة من الأمم يكون بمقدار انضباط نشاطها الإنساني كله وفق بنى مؤسسية ناضجة وفاعلة، وليس وفق جهد فردي مهما كان متعاظمًا، والحضارة الإسلامية كان من أعظم معالمها الاهتمام بالبنى المؤسسية وتنظيمها حتى في النشاطات الأهلية، وذلك في وقت مبكر من رشد الإنسانية ووعيها بفكرة العمل المؤسسي، وقد عرفت المجتمعات الإسلامية في القديم والحديث العديد من المؤسسات الدينية التي رسخت خبرتها وسيرتها عبر السنين، حتى أصبح لها هيبة في الضمير العام لدى الأمة وعلمائها وشعوبها، وحتى لدى الدوائر الأجنبية سواء الاستشراقية العلمية أو السياسية أو الدينية، حتى أنه لا تنشأ أزمة لها وجه ديني في أي مكان من العالم حتى يلجأ الساسة هناك إلى مؤسساتنا الدينية بحثًا عن حل لها أو التماسًا لجهدها الذي يحظى بالاحترام والهيبة، وهذا يعني أن تلك المؤسسات الدينية التي تحتويها عواصم الإسلام المختلفة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب تمثل قيمة إنسانية وحضارية وعلمية ودينية مهمة للغاية، هي كنز من كنوزنا الإنسانية والأدبية، ينبغي أن نحافظ عليها ونعلي من شأنها ونطور على الدوام من أدائها وندعمها بكل ما يحافظ على مكانتها وهيبتها في الضمير الإنساني العام في الداخل والخارج، ولكن المؤسسات مثل الأفراد يعتريها كل حين بعض الأمراض، أمراض الوهن والاضطراب والصراعات والتراجع العلمي وغير ذلك، وهي الأمور التي تحزن عادة المهتمين بشأن هذه المؤسسات، وتؤلم ضمائرهم، ولكن المشكلة تأتي من نزعات التهور والشطط في ردات الفعل تجاه هذه الأحوال المتراجعة للمؤسسات الدينية، فتجد من يطالب بالخلاص من هذه المؤسسات، لأنها أصبحت عبئًا وبيئة غير ملائمة، ولا بد من البحث عن بدائل لها، وتستعر الحملات القاسية والمريرة عبر المنابر الإعلامية والصحفية ضد هذه المؤسسات، دون أن يكون هناك صوت للتوسط والاعتدال يبحث بعقلانية وهدوء ودأب في أبعاد المشكلة وكيفية الخروج منها، بما يعيد الحيوية والتجدد لتلك المؤسسات في الوقت الذي يحافظ على وجودها كتراث إنساني يمتلك الهيبة والحضور الضخم في ضمائر الناس، ولعل الذي يراجع مكانة المؤسسات الدينية والأكاديمية في الغرب والجهود التي تبذل دائمًا لتطويرها ودعمها والحفاظ عليها، يأخذه العجب الكبير من تلك الجدية، وأيضًا الروح الاحتفالية الوقورة التي تجعل لهذه المؤسسات هيبتها لدرجة يتم التعامل معها كرمز من رموز الحياة في هذه الدولة أو تلك، إن علاج ضعف مؤسساتنا الدينية لا يكون بدفنها والخلاص منها، فهذه تكون خسارة فادحة دينيًا واجتماعيًا وأدبيًا، وإنما يكون برعايتها والبحث عن وسائل تطويرها ووضع أفضل العلاجات العلمية والإدارية والدينية التي تجدد لها شبابها وتخرجها من حال الوهن والتراجع، إن أي مؤسسة بديلة يحاول المجتمع إنشاءها اليوم تحتاج إلى مئات السنين لكي تملك عبق التاريخ وهيبته التي تملكها تلك المؤسسات، ومن المشكوك فيه أن تنالها رغم ذلك، إن الهدم عادة يحسنه حتى الأميون، وإنما البناء والتطوير هو الذي يحتاج إلى عبقرية الوعي الإنساني. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.