للمرة الثانية، تُفوِّض اللجنة التنفيذية لحركة فتح ومعها اللّجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الرئيس محمود عباس بالسَّير قُدما في المفاوضات غيْر المباشرة مع إسرائيل، وهو الاقتراح الأمريكي الأصل، على أن لا تزيد المدّة عن أربعة أشهُر، حسب قرار لجنة المتابعة العربية لمبادرة السلام، والتي منحت عباس غِطاءً عربيا من قبْل، تحت مبرّر أن هناك ضمانات أمريكية تثبت جديّة موقِف إدارة أوباما من ناحية ونجاحها غيْر المُعلن في الضغط على حكومة نتانياهو لوقف أو تجميد الاستيطان من ناحية أخرى. هذه المرّة كسابقتها، جاء القرار متعلّلا بمنح الرئيس أوباما فرصة للعوْدة إلى عملية سلام، تقوم على مرجِعية حلّ الدولتيْن والقرارات الدولية ذات الصِّلة. اقتراح أمريكي الأصل معروف أن المفاوضات غيْر المباشرة عبْر المبعوث الأمريكي جورج ميتشيل، هو اقتراح أمريكي الأصل لتعويض الفشَل فى إجراء مُفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وهو أسلوب، جزءٌ منه يرتبِط بتجاوُز مأزَق الجُمود في عملية السلام لأكثر من 18 شهرا متّصلة، ومنْع فراغٍ سياسي وإستراتيجي، قد يقود إلى حرب ولو من قبيل ملْء الفراغ وإعادة بلوَرة مُعادلات إقليمية جديدة يكون بعدها ما يكون، وأيضا إدارة أزمة، حتى لا يُقال أن إدارة أوباما قد استسْلمت للعَقبات وقرّرت الهروب. وفي كل الأحوال، تحمِل هذه المفاوضات احتمالا بإحراز شيء قد يُساعد على حلحلة الموقف برمّته. ولعلّ العُنصر الأخير، وهو ما يُمثل جوْهر الرِّهان الأمريكي، وذلك شريطة أن تُمارس إدارة أوباما دورا أكبر من مجرّد توصيل الرسائل بين الرئيس عباس ونتانياهو، وأن تقدمِّ حلولا ومَخارِج عمَلية مصحُوبة بضمانات للتَّنفيذ الدّقيق، حين تتأزّم الأمور. هذان الشّرطان وحدهما، الكفيلان بأن يجعلا مُفاوضات الأربعة أشهر، نقلة نوعية وخُطوة إلى الأمام، وليست مجرّد مفاوضات عبَثية ومَضْيّعة للوقت ومِنحة إضافية للحكومة الإسرائيلية، من أجل قضْم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وهو ما ترجّحه فصائل فلسطينية مُعارضة كحماس والجهاد الإسلامي والجبهتيْن، الديمقراطية والشعبية لتحرير فلسطين، وكلّهم يروْن أن هذه المفاوضات تعطي شرعية للاستيطان الإسرائيلي والقضاء على حقوق الشعب الفلسطيني، وأنها في الأول والأخير مُفاوضات عبَثية. وطِبقا لحماس، فإن استِئناف المفاوضات، هو مِظلّة للاحتلال لارتكاب المزيد من الجرائم. غياب النِّقاط المُشتركة وبيْنما لا توجد أجندة واضحة ومحدّدة للقضايا التي ستُناقشها هذه المفاوضات، تبدو مواقِف الطرفيْن المُعلنة، بعيدة عمّا يُمكن أن نسمِّيه نقاطا مُشتركة تُمثل أساسا مناسِبا لتحقيق شيء ملموس في مدى زمني، يُعد قصيرا للغاية قِياسا بالطريقة التي تتعامل بها إسرائيل مع قضايا المُفاوضات بوجْه عام، وهي طريقة استِهلاك الوقْت في صغائِر الأمور وعدَم الالتِزام بما تمّ الاتِّفاق عليه مُسبقا، ومحاولة فرضِ جدوَل أعمال يستفِز الطّرف الآخر، وتوظيف الوقت في تغيير المعالم على الأرض وفرض أمرٍ واقعٍ جديد في الأراضي الفلسطينية المُحتلة. ضغوط واستِفزاز إسرائيلي مُسبق ويُلاحَظ هنا، أن مصادِر إسرائيلية في داخل الحكومة وفي داخل منظمات الاستيطان اليهودي، تتحدّث عن خطّة مشتركة للدِّفاع عن أمن إسرائيل من خِلال إفشال المُفاوضات غير المباشرة والقِيام بعددٍ من الأعمال الاستفزازية الكبيرة، كالاعتداءات على المسؤولين المشاركين في المفاوضات والاعتداء على القُرى الفلسطينية في الضفة وغيرها، والقيام بأعمال مُثيرة من قَبيل احتلال مناطِق فلسطينية وحرْق وتخريب مساجِد ومُمتلكات فلسطينية، وبطريقة تستفِزّ مشاعِر الفلسطينيين وتدفعهم إلى وقْف المفاوضات، وبذلك، يتحقّق الهدف المُزدوج، إفشال المساعي الامريكية من جانب وإثبات قوّة المنظمات الاستطيانية تُجاه الحكومة من جانب آخر. يُصاحب هذا حديث عن خطّة بدأ رئيس الوزراء نتانياهو تطبيقها بالفِعل وتلعب فيها وزارة الخارجية بقِيادة افيغدور ليبرمان، الدّور الرئيسي، وقِوامُها تشويه السلطة الفلسطينية والرئيس عباس وقيادات كثيرة من حوله، والتركيز على مَقُولة عَدم استِعداد الجانب الفلسطيني لاستحقاقات أمن إسرائيل وأن السلطة فاسِدة وغيْر قادرة على بناء دولة مُستقرّة، واختصارا، لا يوجد شريك فلسطيني للسلام موثوق فيه إسرائيليا. والسؤال هنا: هل ستُغيِّر إٍسرائيل طريقتها المُعتادة وتتعامَل هذه المرّة بنوْع من المسؤولية التاريخية، مع أمنِها أولا وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة ثانيا؟ أتصَوّر أنه من الصعب بمكان ترجيح أيّ تغيير في الأسلوب الإسرائيلي، حتى في ظل ما يُقال عن ضمانات أمريكية غيْر مُعلَنة وغيْر معروف طبيعتها بعدُ، ولكنها، وحسب تصريحات الرئيس محمود عباس، تستنِد إلى التِزامٍ أمريكي برفْض أي إجراء استفزازي من قِبَل أي طرف أثناء فترة المفاوضات غيْر المباشرة، وبإعلان مَن هو المُتسبّب في عرقلة المفاوضات. وفي بعض التفسيرات، فإن الإجراء الاستفزازي هنا، هو قيام حكومة نتانياهو بتنفيذ خُطط استيطانية جديدة في الأراضي المحتلة. ضمانات أمريكية.. مِن أي نوْع؟ وفي بعض الرِّوايات، هناك إشارات إلى أن الولاياتالمتحدة لن تُمانع أي تحرّك عربي فى اللّجوء إلى مجلس الأمن، إذا ما كانت مسؤولية عرقَلة المفاوضات مُلقاة على عاتِق إسرائيل بعد استنفاذ الأشهر الاربعة، وأنها تلتزِم بعدَم الانتِقال مباشَرة من المفاوضات غيْر المباشرة إلى المفاوضات المباشرة، إلا بعد قيام الطّرف العربى بعملية مُراجَعة دقيقة لنتائج جوْلة المفاوضات، ذات الأربعة أشهر، بواسطة المبعوث الأمريكي جورج ميتشيل. ولعلّ أوضح ما قِيل في هذه الضمانات، ما أعلنه ياسر عبد ربه، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بقوله، أن قرار المُوافقة على المحادثات غيْر المباشرة، يستنِد إلى الضّمانات والتأكيدات التي تلقَّتها القيادة الفلسطينية من الإدارة الأمريكية، بالنسبة للنشاط الاستيطاني وخطورته وضرورة وقْفه، وكذلك بشأن مرجعية السّلام، التي تشمَل قرارات مجلس الأمن وخطّة خارطة الطريق ومُبادرة السلام العربية. وإن كان الأمر كذلك وبهذا الوضوح، فيُمكن القول أن الضمانات الأمريكية هي من النوْع الجادّ. على أية حال، فمِن الواضِح أن هناك ضمانات أمريكية أرضَت الجانب الفلسطينى، ويظل الأمر محَل التكهُّن، هل هذه الضمانات مكتوبة أم غير مكتوبة؟ وهل تقابِلها ضمانات أخرى موجّهة إلى الجانب الإسرائيلي أم فقط هذه الضمانات للجانب الفلسطيني؟ أسئلة كثيرة بِلا إجابات حاسِمة. جدول مفاوضات غيْر محدَّد غِياب الإجابات الحاسِمة بشأن الضمانات الأمريكية، فَحْواها ومَدى إلزاميَتها، تصاحبها أيضا إجابات غيْر حاسِمة بشأن جدول أعمال المفاوضات غيْر المباشرة. فإسرائيليا، الأولوية هي لقضية أمْن إسرائيل ومنْع التّحريض الفلسطيني والانطِلاق مِن اللاّ شروط مُسبقة، ولكن بطريقة تفرض أجندة مُعيّنة قليلة الفائدة ومحدودة القيمة، وهو ما أشار إليه نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي سيلفان شالوم، الذي توقّع أن لا تحقّق هذه المفاوضات أي تقدّم، واصفا إيّاها لصحيفة جيروزاليم بوست بأنها جانبية، وقال إنها ستركِّز على المشاريع الاقتصادية وتطوير المناطِق الصناعية والمشاريع المُشتركة في قطاعات الكهرباء والصرف الصحي والمياه والبِنية التحتية. أما فلسطينيا، وحسب تأكيدات الرئيس عباس، فإن هذه المفاوضات هي لقضايا الحلّ النهائي، كالحدود والقدس والمِياه وأمْن إسرائيل وحقّ العوّدة، وبالقطع، الوقْف الكامل للاستيطان في أي بُقعة فلسطينية، بما في ذلك القدسالشرقية، العاصمة المُنتظرة للدولة العَتيدة، إن أنشِئت مُستقبلا. ملاحظتان مهمّتان هنا ملاحظتان جديرتان بالانتِباه، الأولى أن إسرائيل تُصرّ على اللاشروط كشرْط للمفاوضات وتُصر على أولوية الأمن وما تسمِّيه منْع التحريض الفلسطيني، وهي بمثابة شروط مُسبقة بامتياز، وكأن إسرائيل تقول الشيء ونقِيضه في آن. وتلكم عادتها على أي حال. والثانية، أن الفلسطينيين يتحدّثون عن البحث في العُمق، عن قضايا بناء الدولة من حدود وعاصمة وأمْن وخلافه، وأن لا تبدأ الأمور من نُقطة الصِّفر، بل لابُد أن تُؤخذ بعين الاعتبار الاتِّفاقات التي تمّ التوصّل إليها في مباحثات سابِقة، حتى في عهْد حكومة أولمرت ليفنى، قبل أن تذهب في أدراج الرياح بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة نهاية عام 2008 ومطلع عام 2009. الأمر على هذا النّحو، يعني أن المفاوضات المباشرة مُعرّضة للتآكُل وأن فترة الأربعة أشهُر، لن تكون كافِية لحسم خِيار بلْوَرة أجندة المُفاوضات، وليس التوصّل إلى تفاهمات معيّنة بشأن هذه القضايا المعقَّدة بحُكم طبيعتها ومكانة كلّ منها لدى كل طرف على حِدة. وعلى هذا، فإن الأمر سيتعلّق بما يُمكن أن تقوم به الولاياتالمتحدة من ضغوط خفِية على هذا الطرف أو ذاك، من أجل الاستثمار الأمثل لمُهلة الأشهُر الأربعة. المصدر: سويس انفو