رغم أن العلوم السياسية الحديثة تجاوزت في توصيف مهام عملها ودورها في خدمة المجتمعات، فكرة تحليل الأحداث الجارية إلى آفاق أرحب من الاستشراف المستقبلي والتحليل بالسيناريوهات، ووصلت إلى معرفة أدق لأقرب السيناريوهات أو البدائل حدوثًا ونسبة تحقق كل سيناريو. إلا أننا في عالمنا العربي والإسلامي المنكوب بجماعات دينية تجاوزها الزمن، وتنظيمات أيديولوجية من عهد عاد ومن العرب البائدة، وعسكر لا يفكرون إلا بالقوة ومفاهيم السيطرة وخلق الحقائق على الأرض، ما زلنا نقبع في مجاهيل تحليل اللحظة الراهنة، وقراءة تداعيات الأحداث والغوص في تفاصيلها بما يشغلنا عن الاستشراف والتفكير المستقبلي. إن أي قراءة دقيقة لما جرى من عزل الرئيس محمد مرسي (سمّه ما شئت: انقلابًا عسكريًا، أو استجابة للإرادة الشعبية التي خرجت في 30 يونيه، أو مؤامرة إقليمية ودولية كبرى). أقول إن أي قراءة دقيقة تقول إن هناك حدثًا على قدر كبير من الأهمية والتأثير في رسم سيناريوهات المستقبل قد حدث، وإن حدثًا بهذا الحجم والتأثير على مصر داخليًا وخارجيًا على مستوى محيطها الإقليمي والدولي ليس من الطبيعي أن يحدث دون ترتيبات إقليمية ودولية. وإن السياسات الإقليمية والدولية لا تبنى حقيقة من تصريحات الناطقين الرسميين باسم مؤسسات دولهم في دول العالم الكبرى، وخاصة الولاياتالمتحدة بما يحسنونه من تقديم خطاب حمال أوجه، ومتعدد المستويات يسمح لكل طرف أن يفهمه كما يشاء. حدث بمثل هذا القدر من الأهمية لا يمكن لأحد أن يتخيل أن يتم دون ترتيبات ومشاورات ودون أخذ تداعياته في الاعتبار. عُزِلَ الرئيس محمد مرسي وتجري الآن معركة عض الأصابع بالحشود والحشود المضادة والإجراءات القانونية على الأرض من تقديم بلاغات للنيابة العامة ونسبة عدة جرائم لكثير من رموز أنصار نظام مرسي: جماعة وحزبًا ورئاسة ومتحالفين معها أشخاصًا وجماعات. وكل طرف يستخدم ما لديه من أوراق ضغط وشبكة علاقات وتحالفات إقليمية ودولية. إلا أن الثابت أن السياسة لا تعرف صداقات دائمة ولا عداوات دائمة إنما تعرف مصالح دائمة. والسياسة ملعب وتراك، وكل من يجري في الملعب من المحتمل أن يحرز هدفًا، أما من يجري في التراك والهوامش فحتى لو أحرز هدفًا لا يحتسب. والمعركة الآن قائمة بين اللاعبين داخل الملعب، أما من هو قابع في التراك، فمن الأرجح أن يتجاوزه الزمن ويصبح من مفردات زمن باد ولن يعود. تجربة عودة تشافيز في فنزويلا تجربة شديدة الخصوصية واحتمالات تكرارها في مصر ضعيفة جدًا بمقاييس الوقائع على الأرض والأحداث التي جرت والترتيبات التي تمت قبل وبعد العزل. وانتظار أن تتكرر التجربة في مصر انتظار لما لا يأتي، للفوارق الشاسعة بين التجربتين فهو كما يقول الأصوليون قياس مع الفارق، وأقول الفارق الشديد جدًا. في آخر كتاب لي وكان نقدًا روائيًا لرواية بشير الرشيدي "مجاهد" أهديته إلى: "هؤلاء الفتية الذين ضحوا بحياتهم على أسوار الحلم، حلم المدينة الفاضلة، ثم اكتشف بعضُهم سرابها.. وما زال الآخرون يموتون على الأسوار". وكانت الرواية تدور على أساليب أجهزة أمن الدولة في الدول العربية في خلق رموز جهادية ودعوية يتم تحريكها بالريموت كنترول وتكتب تقارير للأجهزة حول أفراد جماعتهم. والآن تتم المفاوضات بين النظامين القديم والجديد، ومعركة المفاوضات هي معركة السقف المرتفع للمطالب، لكن عادة لا تأخذ من الطرف الآخر في المفاوضات بأقصى مما تصل إليه مدافعك، كما كان يقول نابليون. فإلى أي مدى ستصل مدافع الرابضين في رابعة العدوية وميدان النهضة، وما عساهم أن يأخذوا من مكاسب في المرحلة القادمة. أخشى أن تسفر المفاوضات عن عدد هائل من "مجاهد" كما في رواية بشير الرشيدي، وعدد أكثر من هؤلاء الذين يموتون على أسوار الحلم. آخر كلام كان بوسعي أن أسكت، أو أغلق عليّ بابي، أو أكتب كلامًا ساكتًا لا يقول شيئًا، أو أن أمسك العصا من المنتصف وأكتب كلامًا كتصريحات الخارجية الأمريكية وبيتها الأبيض: كلام حمّال أوجه يفهمه كل واحد حسب ما يريده، أو أن أقول: تلك معركة طهر الله منها أيدينا فلنطهر منها أقلامنا، إنما أحسب أن الميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا العلم لا يسمح بكل ذلك. أقول وأنا أعرف مقدمًا حجم ردود الأفعال السلبية، وخسارة بعض الصداقات. لا نريد لهم أن يحتسبوا (شهداء وضحايا) أرقامًا في معركة عض الأصابع، ولا أوراق لعب أو ضغط في مفاوضات السمسار الأكبر. لا نريد لهم أن يظلوا يموتون على أسوار الحلم، حلم المدينة الفاضلة، ثم يكتشف بعضُهم سرابها.. لكن بعد فوات الأوان.