الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.. أما بعد.. فالأحداث تتلاحق بقوة في مصر.. صح عن النبي (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) [رواه ابن ماجه، وصححه الألباني]. وتطرق مسامعنا نظريات المؤامرة وتصفية الحسابات والمراهنات على الشارع و.. و.. و... ويسلط الإعلام الحكومي الأضواء على ما يريد إيصاله للناس في غيبة القنوات المغلقة. وكل حزب بما لديهم فرحون.. وبادئ ذي بدء لابد أن نعرف أن هذا كله بقدر الله، ولا يكون في ملكه تعالى إلا ما يريد.. ثم ليس بالضرورة أن كل ما يراه أحدنا يكون صواباً، فنحن في زمان يعجب كل ذي رأي برأيه، لكن حالة الهرج الشديد، وسقوط الضحايا تجعل كل واحد لا يسمع للآخر، ولو كان في كلامه بعض الحق. لكن ما الذي أوصلنا إلى هذا؟؟ ربما لكلٍ رأيه.. وباحتمال فكرة المؤامرة، وفكرة الانقلاب، وتصفية الحسابات، لكن ليس بالضرورة أن تنجح المؤامرات والانقلابات وتصفية الحسابات، فلابد من وجود خلل ما.. وأتصور أن الخلل كان من نقض العهود وإخلاف الوعود.. إن الرئيس د.محمد مرسي رجل متميز جداً، وأول رئيس نعرف أنه يحفظ كتاب الله، ويصلي.. وحفظ كتاب الله يجعل الرجل مميزاً، ولا يعرف هذا إلا من عرف مجاهدة النفس للحفظ، ونتعجب من كثيرين من طوائف المثقفين لا يحسن أحدهم يقرأ آية، بل وجدنا متحدثاً باسم القضاة يقرأ قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، فيقول قال تعالى: (وإنك لعلى خلق كريم)، مع أن هذه الآية يعرفها صغار الطلاب في المدارس، ولذا فهم لا يعرفون قدر (حفظ القرآن)، وتمر الصلوات على بعض الاجتماعات والمظاهرات، ولا نجدهم يصلون. فالدكتور مرسي مميز جداً.. لكن وعد بوعود ولم يطبقها.. نترك الكلام على الوعود التي تحافظ على حياة البدن في الدنيا، لكن أين الوعود بالحياة الباقية؟ أين الوعود بتطبيق الشريعة؟ لقد تجرأ التيار المخالف له في نهاية الأمر فقال إن الإخوان لن يطبقوها، فهي وعود انتخابية فحسب.. وطلبنا كثيراً من الرئاسة الإعلان عن تطبيق الشريعة، كنا نحب الإعلان فحسب، وتكلم الكثيرون في ذلك، وتكلمت بنفسي مع أحد وزراء حكومة د.هشام قنديل بهذا، وأرسلت للرئاسة بهذا من أكثر من قناة، ولم نجد لهذا صدى في الواقع، بل وجدنا الأوهام التي نسمعها ولا حقيقة لها.. قيل: أمريكا لن تقبل، وستعمل - إذا أعلنا هذا - على إسقاط النظام!! طيب.. فهل رضيت عنا أمريكا بسبب عدم تطبيقها؟ ثم أليس ثمة بلدان في العالم تعلن تطبيق الشريعة، وعلاقاتها الدولية مستقرة؟ هلا كان الإعلان المصري أننا سنطبقها على غرار الدولة هذه أو تلك؟؟ كما أن حزب (النور) كان يعاني من إخلاف الوعود الكثيرة، حتى أن نائب رئيس الدعوة السلفية لما قيل له فماذا تريدون من الإخوان؟ اختصر الأمر في كلمة وهي (الوفاء بالوعد). إشكال الإخوان كما يعرفهم من تعامل معهم يكمن في القرارات التي لا يمكنهم تخطيها من مكتب الإرشاد، وبالتسلسل الهرمي في الجماعة، وكأن الرئيس محمد مرسي وقع في شيء من ذلك، بل صرح الدكتور عصام العريان بأن القرار بعزل المشير كان دون الرجوع للمرشد، وهو القرار الذي استحسنه الكثيرون وقت صدوره، فكان يقال: (مرسي أردوغان تركيا)، فبعده قيل بل: (أردوغان هو مرسي مصر)، لأنه أنجز في أربعين يوماً ما قام به حزب أردوغان في نحو سبع سنين. ولذا قال من قال – وهو صحيح بقدر ما - إن مكتب الإرشاد كان سبباً في عزل الدكتور محمد مرسي. بل لا يزال الإشكال قائماً الآن، فحيث اتخذ القرار ألا مفاوضات، فسيستبسل الإخوان دون هذا القرار، بل وستفرز مفرزات التكفير والقتل بقوة. ثم إدارة فكرة (المصالحة المفروضة) مرفوضة ما دام قرار مكتب الإرشاد ألا مصالحة، ثم كيف تتوقع الحكومة القادمة، وكيف يتوقع الرئيس المؤقت، وهؤلاء جميعاً: أنه يمكن للإخوان أن يدخلوا في المصالحة، وقياداتهم ملاحقون بتهمة التحريض على القتل التي عقوبتها بين الإعدام والأشغال الشاقة؟ وهذه الملاحقة من النائب العام الذي أعادته المحكمة! فكأنهم يقولون للإخوان تصالحوا وسنقتل قياداتكم (بالقانون)! هذا نوع من العبث.. أما (حزب النور) فموقفه دقيق نسبياً، فمن يخالفه يتهمه بالأوصاف القبيحة، ابتداء من الغباء وانتهاء بالعمالة والتكفير!! لكن هل كان فعله مناسباً؟ أو سيقول قادته ما قاله أمير المؤمنين علي (أكلنا يوم أكل الثور الأبيض)؟؟ إن اللعبة السياسية معقدة جداً، لكن حزب النور ذكر أن ما فعله يرجع إلى مسألة (تعرض المصالح والمفاسد)، فماذا كان عليهم أن يفعلوا مع نزول الملايين (مع العسكر) ضد الدكتور مرسي؟؟ ونسمع من بعض طلاب العلم ترديد (الشرعية.. الشرعية)، و(شرعية الصندوق)، وما أشبه ذلك، وليست هذه شرعية، فإن الصندوق يجعل صوت الفاجر والكافر مساوياً لصوت المسلم الحكيم من أهل الحل والعقد، وليس هذا من الشرع في شيء. ثم إن ترجيح (العسكر) يدخل تحت مسألة (التغلب)، فضلاً أن يقال إن الملايين يشتملون على من يمكن أن يقال لهم (مع العسكر) إن لهم سلطة العزل. ثم المناداة بالدستور والدستور، و(ترزية) القوانين يتكلمون بأن هذا كان موافقاً، أو مخالفاً، مع أننا وجدنا أن ما فعله الرئيس مبارك من تسليم السلطة للعسكر لم يكن منصوصاً في الدستور، لكنهم صفقوا له خوفًا من العسكر. إذاً من يملك القوة يفرض الواقع.. ولذا فدخول حزب النور في الفترة الانتقالية قد يخفف من المفاسد، لأنه رأى أن زوال الدولة الإخوانية محتم. بل كان للإخوان فرصة أن يدخلوا في ذلك فيجتمعون مع الجيش ويجعلون لهم الغطاء السياسي لحفظ الجماعة أو ما تبقى منها.. ولهم فرصة في الدخول في الحكومة تحت رئاسة الببلاوي، ولهم فرصة في المصالحة.. لكن حيث لا يمكن مخالفة مكتب الإرشاد الذي يلاحق أعضاؤه باسم القانون بتهم عقوباتها مغلظة، فلن يمكن تصور بزوغ مصالحة بين الإخوان والدولة. وهذا نفق خطير يشوبه دماء كثيرة يجر لها الطوائف، بل يقوم بها مغرضون للإيقاع بهؤلاء أو هؤلاء.. إن ما يسمى "الدولة العميقة" لم يستطع الإخوان التعامل معها وهم في الحكم، فلا يمكن أن يتصور أن يفلحوا وهم مطاردون من قضاء الدولة، غير أن الناس في معيشتهم قد تضرروا كثيراً. وكل من يهيج الناس للخروج والتظاهر والاعتصام و.. و.. و.. لا يوجد له كبير فائدة في ذلك. صحيح أن صلاة التراويح ودروس محيط مسجد (رابعة العدوية) قد يجتمع فيه كثيرون مما يسبب حرجاً للحكومة المقبلة، لكن اختراقه ممكن ممن لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، ويحدث عندئذ القتل. لذا فالأقرب في الخروج من هذه المشكلة: أن يراجع قيادات الإخوان قبل فوات الفرصة تلو الفرصة، وذلك بأن يكون ثمة مهادنة يجمعون فيها شملهم، وهذه الهدنة يشترطون فيها – أو يتفاوضون - على إسقاط الملاحقات القضائية، وأن يتم دفع الديات لأولياء القتلى فيمن قتل في فوضى، فحسب، لأن في الحديث الصحيح عن ابن عباس قال رسول الله : «من قتل في عميا، أو رميا يكون بينهم بحجر، أو بسوط، فعقله عقل خطأ، ومن قتل عمدًا فقود يديه، فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين». ويتدخل الأزهر لتقريب ذلك بين الإخوان ومناوئيهم، والعمل على تقليل مفاسد انفراد العلمانيين بالدستور والسلطة والبلاد ورقاب العباد.. وقتها قد تمكن المصالحة، ويبدأ النظر في الأصلح والأوفق.. اللهم الطف بنا.