المؤسسات الدينية في بلادنا كالأزهر الشريف شأنها كشأن كل المؤسسات المدنية الأخرى تخضع لمعايير الأداء, أما ميدان الحكم على مستوى أدائها فهو أخلاق المجتمع الإسلامي وسلوكياته ومفاهيمه, فهو المجال الذي تمارس فيه هذه المؤسسة نشاطها فلابد أن نجد مفاهيم المجتمع الإسلامي وقواعد سلوكه تتقرر انطلاقا من الحرام والحلال, أي أنها تتكون انطلاقًا من الموقف الديني، أصبحت الحياة العامة أو السياسية متأججة بممارسة الغش والكذب والخداع دون الشعور بالذنب أو الشعور بارتكاب مخالفات دينية أمام الخالق, عن طريق سياق تبريرات خادعة وكاذبة, كأن يقول في نفسه وأمام الله أنه مضطر للكذب أو السرقة أو يكون مأجورًا في الشر ثم بعد ذلك يمكنه الاستغفار مباشرة أو بعد الصلاة, وإحدى التبريرات مثلا تلك التي تتعلق بعمليات النصب والاحتيال وتبريرها من قبل من يقوم بها أن أموال الكفار مباحة, وحينما تفتش عن ماهية الكفار في مخيلتهم تجد أن الكفار هم كل من يرغب بسرقتهم والاحتيال عليهم وكل ذلك يجري ببساطة ودون أن يتناقض أبدًا مع ممارسة الشعائر الدينية أو الوقوف أمام الله في الصلاة. إنَّ التأمل في المفاهيم الاجتماعية العامة يبين مدى تقدير العامة للفهلوة والشطارة في الخداع والنفاق والكذب ومدى الاحتقار الذي يكنه المجتمع لكل سلوك نظيف كرفض الرشوة أو الصدق في المعاملة الذي يوصف بالحمق ومن هذا المنطلق لا نستطيع أن نجنب المؤسسات الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف والأوقاف وغيرها من المؤسسات الدينية سواء الرسمية منها أو الخاصة عدم مسؤوليتها عن هذه الأخلاقيات الفاسدة، لأن نشر الأخلاق الحميدة من صلب مهامها (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وخصوصًا أن الانحطاط الأخلاقي يجري في ظل سلطة هذه المؤسسات التي تتيح لها صياغة المفاهيم والأخلاق العامة تحت مسمى وخدعة الوسطية, والازدحام على خطب يوم الجمعة خير دليل على اتساع سلطتها ونفوذها وفي اعتقادي المتواضع أن هذه المؤسسات هي المسؤولة عن هذا التردي الأخلاقي، وهي مشاركة به لأنها تتعامل مع التشريع تعامل طبقًا للمصلحة الوقتية دون إدراك روح التشريع الثابت، وهي المسؤولة عن صياغة العلاقة التعبدية النفعية التي يمارسها المسلم مع الخالق، وتغييب البعد الروحي لها, بسبب فتاواها التبريرية النفعية التي تعلم المسلم الالتفاف على النص وارتكاب الخطأ بدون المساس بحرفية النص, كما أن قراءة آية كذا بعض صلاة العصر يمسح ذنب كذا و كذا و قراءة الآية الأخرى في فترة أخرى يمسح نوعًا آخر من الذنوب, وأن الحج يعيد المؤمن طاهرًا كما ولدته أمه، وبالتالي يعود ليبدأ بارتكاب الذنوب على صفحة بيضاء والمثل الشعبي القائل (إذا جارك حج أوم هج) ذو دلالة بالغة على أخلاق من يسمّون بالحجاج إلا ما رحم ربي, والأكثر طرافة تلك العدادات الآلية التي شاع استعمالها من أجل إحصاء عدد مرات ذكر الله أو ترديد الشهادتين وهي أشبه بمن يحسب على الله التقدمات ليوازن بين ما سيغفر له وما هو متاح له لارتكاب الذنوب, أو أنه يثبِّت لنفسه ممسكًا على الله في الأرقام الدقيقة التي تعطيها العدادات الآلية تمامًا، كما يفعل بمعاملاته التجارية, حتى باتت علاقة المسلم مع الخالق أشبه بالعلاقة التجارية مع شخص آخر وليس مع الخالق عز وجل, وذلك لخلوها من الإحساس الروحي الديني, بل تقوم على تأدية شعائر معينة وذكر الله مقابل تحقيق منافع معينة، فهذه الفتاوى الضيقة الأفق التي تصدرها هذه المؤسسات وتفسير أسبابها, لها أثر خطير جدًا، لأنها تعيد صياغة مفاهيم الفرد وأخلاقه وطريقة تعاطيه مع الخالق فتصبح هذه الطريقة التبريرية أسلوبه الأساسي في التعامل مع الغير. نحن نريد أن نكون صرحاء مع أنفسنا، لكن هذه الصراحة لا ينبغي أن تكون مجرد البكاء أو النعي على الإطلال والكلام عن الماضي المجيد وخيبتنا في العصر الحاضر بل يجب أن يكون هذا هو المنطلق الذي منه ننطلق لمحاولة الإصلاح والتطوير، يجب أن يكون من أولى مهمات المؤسسات الدينية، التعرف على العلوم المختلفة، بترجمتها على نطاق واسع إلى اللغات الإسلامية كلها، يجب أن تصبح لغة العلم لغة اعتيادية عندنا، وددت لو كنا فيها متقدمين، وهذه في نظري هي مهمة المؤسسات الدينية فلابد لها أن تتواصل مع الآخر، وكذلك فتح قنوات الاتصال المستمر والتي تقوم على الاحترام المتبادل والعمل على البحث المتواصل عن القدر المشترك للانطلاق منه في سبيل السلام وإعمار الكون، لأن الجامعات الأخرى لا تهتم بربط العلوم بثقافتنا الإسلامية، فالمؤسسات الدينية إذا أرادت أن تكون جادة في عملها، يجب أن يكون على رأس مهماتها ترجمة العلوم الطبيعية والعلوم الصناعية بلغاتنا، وأن تكون بهذه الحركة هي القائدة الحقيقية للتطوير الثقافي لمجتمعنا، لأن هذا التطوير لن يأتي أبدًا من الجامعات التي تقلد الغرب، لأن معظم أساتذتنا اعتادوا على الدراسات الغربية، فهم في الحقيقة وربما دون شعور منهم يريدون أن يكونوا الكهنة الجدد في مجتمعاتنا، ربما تكون هناك مشكلة أساسية، لا بد أن نأتي إليها عاجلا أم آجلا، وهي المشكلة السياسية، فالإسلام يعتبر أداة سياسية في معظم الدول الإسلامية، وبالتالي ففهم المسلمين للإسلام لن يكون مستقلاً عن مشاكلهم السياسية، لا يمكن أن أتنبأ بالمستقبل السياسي للعالم الإسلامي، لكن أقول هناك في القرن القادم لابد من أن يصبح للمسلم في بلده رأي وفي أموره شأن، ليس شأن المشورة التي لا تزيد عن أن نسمع الكلمة ثم نعصاها، أرى أن المجتمع الإسلامي سيسير حتمًا باتجاه المشاركة السياسية الفعلية، فإذا دخلت الشعوب في القرارات وأصبح للناس رأي وكان هؤلاء الناس على شيء من الوعي ولهم قيادات عاقلة ومتزنة، أعتقد أن الخطة أو التصور الذي تكلمت عنه هو الذي سيكون في الأمة الإسلامية.