"التخبط" ربما تكون أدق عبارة لوصف السياسة الأمريكية تجاه سوريا، فالمتابع لتصريحات أوباما والمسئولين في إدارته، ولتصرفاتهم، يلاحظ بوضوح غياب سياسة رصينة، ومحكمة، وواضحة عندهم، فهم مع عقد مؤتمر جنيف 2، وهم مع تسليح "المعارضين" في سوريا، وهم مع محاربة الإرهابيين في سوريا، وهم في الوقت نفسه مع محاربة من يحارب الإرهابيين، وهم يلوحون بتدخل وشيك في سوريا، عبر التحشيد في الأردن، لكنهم لا يفكرون بفرض منطقة حظر جوي، أو إرسال جنود إلى الداخل السوري! في السابق وفي مثل هذه الأوضاع المشابهة، كانت السياسة الأمريكية تتميز بعدوانية واضحة، وتصميم يظهر في القول وفي الفعل، وكان بعض التناقض في تصريحات مسئولي الإدارة يعتبر تكتيكًا الغرض منه إيهام الخصم، وذر الرماد في عينيه. وكان العمل على جبهتين، مفاوضات وعمل عسكري مثلاً، مجرد تكتيك أيضا لإعطاء الخصم أملاً كاذبًا بجدوى العمل السياسي التفاوضي، بينما الكلمة الفصل كانت للعمل العسكري. أما إزاء سوريا، فليس هناك اليوم إستراتيجية واضحة، وليس هناك تكتيكات ذكية، وليس هناك رغبة حقيقية في عقد مؤتمر جنيف، ولا قرار حاسمًا بالتورط العسكري، وإنما زخم من الأقوال والأعمال العشوائية التي تدل على غياب الرؤية الواضحة، وبالتالي غياب الإرادة الحازمة. وهناك تساؤل عند الكثيرين: ماذا تريد أمريكا في سوريا؟ التخبط هو دليل التردد؛ إنه ناتج عن التردد، ويؤدي إليه أيضًا. واستعراض الباتريوت، وال"إف 16"، وبضع مئات من المارينز وغيرهم في الأردن لا يستطيع إخفاء هذا التخبط، بل يكشفه، ويفضحه أكثر، فقد رأينا من قبل نفس الاستعراض على الحدود التركية قرب حلب. وهذا التخبط رغم أن أمريكا، وللمرة الأولى في تاريخها، تلقى دعمًا "شعبيًا" لأي عمل عسكري عدواني قد ترغب في أن تشنه في المنطقة العربية، وفي الحالة الحاضرة ضد سوريا. لماذا هذا التردد والتخبط؟ بشكل طبيعي يأتي الجواب بأن أمريكا لم تشفَ بعد من جراح أفغانستان والعراق، وهي بحاجة إلى وقت طويل للتعافي من هذه الجراح قبل أن تقدم على حماقة أخرى. وإلى ذلك يضاف بشكل طبيعي أيضًا أن الوضع الاقتصادي السيئ لأمريكا وحلفائها لا يساعد على خوض مغامرة قد تكون مكلفة، وتؤدي إلى اضطراب الوضع الداخلي في أمريكا نفسها، رغم أن الحرب في حسابات البنتاجون تساعد أحيانًا على تحريك الاقتصاد! أمريكا تقف على أرضية هشة في هذه المنطقة، ولهذا فهي مترددة، بل ولا تعرف ماذا تريد غير أمن إسرائيل. ولكني أتصور أن هناك أسبابًا أخرى لهذا التخبط! بلى، هناك على الأقل ثلاثة اعتبارات تثير القلق لدى السياسي الأمريكي وقادة الإدارة الأمريكية وصانعي القرار الأمريكي، وتسبب لهما صداعًا. السبب الأول هو الخوف من مواجهة شبح حزب الله. فأمريكا تدرك وتعمل ألف حساب لحزب الله إذا ما أعلن الجهاد ضد الولاياتالمتحدة أو إسرائيل، فهم ما زالوا يتذكرون شبح الهزيمة النكراء في جنوب لبنان. السبب الثاني هو الخوف من فداحة الثمن الذي سيدفعه سكان إسرائيل نتيجة أية حماقة ترتكبها إدارة أوباما. السبب الثالث هو خوف أمريكا من أن شرارة الحرب لو انطلقت، فإن الحريق سينشب فورًا في كل دول الخليج. وأمريكا والتي لا تزال في حاجة كبيرة إلى وجود استقرار، والذي من شأنه استمرار تدفق مصالحها معها. الموضوع لا علاقة له بكون أمريكا قوية أم لا، فأمريكا ما زالت قوية؛ إنما الأمر يتعلق بالعقلانية والتعقل! والتردد يكون أحيانًا مؤشرًا على التريث والتعقل، فأمريكا، ورغم تاريخها المليء بالعنجهية والغطرسة، ووجود أمثال جون ماكين في قياداتها. وهي بترددها رابحة بالتأكيد، وإلا فإنها قد تكون على شفا هزيمة تاريخية مذلة. وهي بالتأكيد ترغب في أن تتجنب مثل هذه الهزيمة!