بعد أن عرضت فى الجزء الأول من هذا المقال الظروف والأحوال التى أدت لانزلاق الجماعة الإسلامية فى دوامة الصدام العنيف مع نظام مبارك يتبقى السؤال الأهم.. هل من الممكن أن تعود الجماعة لممارسة العنف مرة أخرى؟! من يطرح هذا التساؤل تفوته العديد من الحقائق الهامة: الأولى: أن صدام الجماعة الإسلامية فى الماضى كان ضد نظام مبارك القمعى الفاسد الذى ثار عليه الشعب بأسره بعد ذلك نتيجة ممارساته القمعية تجاه شباب الجماعة وشيوخها ونسائها، أما الآن فموقف الجماعة الصلب والقوى إنما هو فى صالح الدولة وتدعيماً لاستقرارها فى مواجهة الفئة الانقلابية التى تريد التمرد على الإرادة الشعبية والإطاحة بأول رئيس منتخب فى تاريخ المصريين، مما يعنى عودة الديكتاتورية مرة أخرى ولعقود طويلة. الثانية: الجماعة الإسلامية لم تدع إلى العنف أو سفك الدماء فى أى بيان رسمى صادر عنها، أما التصريحات القاسية التى قد تصدر عن بعض قادتها فلا يمكن فصلها عن مجمل الجو المشحون فى مصر الآن نتيجة تجاوز العديد من النخب العلمانية لكل الخطوط الحمراء والقفز من نقد الحركة الإسلامية إلى التطاول على الإسلام نفسه!! ولم نر على مدار السنتين والنصف الماضيتين أى عمل عنيف ترتب على أى تصريح. الثالثة: مواقف الجماعة الإسلامية على مدار الفترة الماضية كانت محل تقدير واحترام بالغين من جميع القوى السياسية المختلفة، إذ ظهر جليًا من خلالها أن الجماعة تعلى من شأن المصلحة الوطنية على حساب مصالحها الذاتية، فقد تخلت الجماعة عن مقعديها فى الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، بعد أن وصلت الأمور حينها إلى طريق مسدود بين القوى السياسية المختلفة، كما عادت الجماعة وأعطت للجميع درساً رائعاً فى التجرد ونكران الذات، عندما فضلت أن يتقدم المهندس عادل الخياط باستقالته من منصب محافظ الأقصر، إنهاء لحالة اللغط التى أثيرت منذ اللحظة الأولى للإعلان عن اختياره للمنصب، رغم كفاءة الرجل المهنية وثبوت كذب ما ادعاه البعض من اشتراكه فى مذبحة الأقصر أو أى أعمال عنف أخرى، إضافة إلى قدرة الجماعة على إدخاله لمبنى المحافظة بالقوة، ولكن الجماعة اختارت حقن الدماء ومنع التشاحن والتباغض، فكان القرار الرائع بتقديم الخياط لاستقالته، والذى كان محل تقدير من الجميع سواء على المستوى الرسمى أو الشعبى. الرابعة: لم يكن صدام الجماعة الإسلامية مع نظام مبارك غريباً على الحياة السياسية المصرية، فقد عرف "الفلكلور" السياسى المصرى التنظيمات السرية، والتى ارتبطت ارتباطًا وثيقاً بالاستبداد والطغيان وانسداد قنوات التعبير السلمية وانعدام الأمل فى التداول السلمى للسلطة، إضافة إلى شيوع التعذيب والانتهاكات الجسدية، وكثير من القوى السياسية الموجودة الآن عرف تاريخها ظاهرة التنظيمات السرية، فقد أنشأ حزب الوفد فى أربعينيات القرن الماضى تنظيم "القمصان الزرقاء"، وأنشأ الإخوان "التنظيم الخاص"، والتيار الناصرى كانت له العديد من التنظيمات السرية المسلحة أشهرها تنظيم "ثورة مصر" بزعامة محمود نور الدين – عليه رحمة الله – والذى مات فى سجون مبارك. كما أن كثيرين من ساسة مصر وقادتها كانوا يصنفون فى وقت من الأوقات ك"إرهابيين"، فعلى سبيل المثال كان أحمد ماهر باشا يصنف كإرهابى بعد اتهامه بانضمامه لتنظيم عبد الرحمن فهمى السرى، كما ألقى القبض عليه ومعه محمود فهى النقراشى فى قضية اغتيال حسن عبدالرازق وإسماعيل زهدي، والمفارقة أن الاثنين توليا بعد ذلك رئاسة وزراء مصر، كما اتهم السادات فى قضية اغتيال أمين عثمان وتم سجنه، وأصبح بعد ذلك رئيسًا لمصر، بل واعترف عبد الناصر لاحقاً أنه كان يخطط لاغتيال حسين سرى باشا! وفى إيرلندا التى ظلت لسنوات طويلة تنعت الحزب الجمهورى الإيرلندى بالإرهاب نتيجة سنوات طويلة من الاقتتال بينه وبين الجيش البريطانى، انتهت إلى مصالحة شهيرة ووجود ممثلين عن الحزب فى الحكومة الآن! ومن هنا، فإن صدام الجماعة الإسلامية مع نظام مبارك جاء وفق معطيات وظروف قهرية نتيجة تصديها لهذا النظام القمعى منذ سنوات حكمه الأولى، فلا يصح أبداً القياس عليه الآن نتيجة مواقف وانحيازات معينة تراها الجماعة ضرورية فى مواجهة الموجات المتتالية من الثورة المضادة التى كادت تعصف بثورة يناير ومنجزاتها لولا المواقف الصلبة التى أبدتها الجماعة وأشهرها إضراب ضباط وأمناء الشرطة قبل أشهر قليلة. ولا يجب أن ننسى أبداً أن الجماعة مدينة باعتذار كثيرين ممن تركوها بمفردها فى مواجهة نظام مبارك ولم يحاولوا الضغط لوقف حملات الاعتقال والاغتيال والتصفية الجسدية والانتهاكات البدنية والاعتداء على النساء واقتحام المساجد وضربها بقنابل الغاز ومنع الدعوة ومصادرة حرية الرأى خاصة بعد أن اكتوى الجميع بنار مبارك ونظامه.. الجماعة راجعت نفسها.. فمتى يراجع كثيرون أنفسهم؟! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.