صحيفة لوفيجارو ليست من صحف "بير السلم" ، وهي صحيفة مقربة من قصر الأليزيه ، وعندما تنشر خبرا عن تأجيل زيارة كان مقررا للرئيس الفرنسي القيام بها لمصر ، فهي تنقل عن مصدر رئاسي ، ولأنه لا مصلحة لصحيفة كبيرة مثل هذه في أن "تضرب" خبرا يهينها مهنيا وخاصا برئيس دولة في العالم الثالث ، وبالتالي لنا أن نصدق لوفيجارو ، ونكذب الأليزيه الذي سارع بعد حوالي عشر ساعات كاملة إلى تكذيب الخبر مع وصلة من الغزل في صحة الرئيس مبارك وفرحة الأليزيه بعودته لممارسة مهامه ، وهو كلام يليق بمتحدث مصري ويكون "كوميديا" عندما يصدر عن قصر رئاسي لدولة أخرى ، والحقيقة أن الخبر الذي نشرته لوفيجارو الفرنسية أمس عن أن الرئيس الفرنسي ساركوزيه ألغى زيارة كان مقررا القيام بها للقاهرة أول مايو بسبب الحالة الصحية للرئيس مبارك ، أتى ليطفئ بعض الوهج الذي ضخمه الإعلام الرسمي عن الوضع الصحي للرئيس بعد مقابلة عدد من الوزراء في منتجعه في شرم الشيخ ، نحن الآن في منتصف أبريل ، والزيارة كان مقررا لها أول مايو ، أي أنه يتبقى عليها أكثر من أسبوعين على الأقل ، والمؤكد أن طلب تأجيل الزيارة لم يقم به الطرف الفرنسي ، وإنما جاء بطلب مصري ، وإذا كانت مدة أربعة أسابيع أو شهر كامل منذ وصول الرئيس من رحلة علاجه الألمانية ليس كافيا لكي يكون قادرا على القيام بمهمة بروتوكولية مثل استقبال رئيس دولة صديقة ، فهذا يعني أن المشكلة أعمق مما يحاول الإعلام الرسمي أن يوصله للناس ، نحن بالتأكيد نتمنى السلامة والعافية للرئيس مبارك ، ولكننا نتحدث الآن عن الرجل السياسي الأول والأخير عفوا الذي يملك القرار السياسي في مصر ، ويملك توجيه الدولة وإداراتها ومؤسساتها كافة ، وهذا ما يجعل الأمر أكثر أهمية لمتابعة المواطن المصري وخاصة النخبة المهتمة بالشأن العام والمهمومة بمستقبل البلاد ، وهذه النخبة على قناعة كافية الآن بأن الظروف الصحية للرئيس ليست مساعدة له على إدارة شؤون دولة كبيرة ومتشعبة المصالح الداخلية والإقليمية والعالمية مثل مصر ، وليس للرئيس مبارك يد في ذلك ، بل هي سنة الحياة وقانون الخلق الإلهي ، ولذلك أتصور أن بذل الجهود المضاعفة من قبل الدائرة المحيطة بالرئيس من أجل إخراج مشهد تليفزيوني بمقابلة وزير أو الجلوس مع مجموعة وزارية ، لن يحقق الآن قيمة كبيرة في الدلالات المقصودة ، كما أن ممارسة الضغوط والاتصالات المحمومة كل مرة مع قيادات سياسية في هذه العاصمة أو تلك سيطول أمره ، وسيظل الناس يسألون عن وضع البلد ومستقبلها الذي من المؤكد أن استحقاقاته مطروحة الآن أكثر من أي وقت مضى ، بل إن الرسالة التي يحاول هؤلاء إرسالها يمكن أن تؤدي عكسها وتسيء إلى الرئيس مبارك وتاريخه ، لأنها تظهره وكأنه متمسك بالسلطة إلى أبعد مدى ، حتى وهو يمر في ظروف صحية شديدة الصعوبة ، ويعاني الإرهاق البدني الواضح وكثرة مراجعاته الطبية والجراحية خارج البلاد خلال السنوات الأخيرة ، وأصعبها ما حدث في ألمانيا بدون شك ، والرئيس مبارك كان حريصا على أن يقدم نفسه في صورة الزاهد في السلطة ومنافعها ، وأنه تحمل الكثير من العناء بسببها ، حسنا ، فمن البديهي أن يطرح الناس السؤال الآن : لماذا لا يستريح الرئيس مبارك الآن ، وينعم بأوقات أكثر هدوءا وراحة بال بعيدا عن توترات الهموم المصرية داخليا وخارجيا ومطاردات الإعلام والأعين الراصدة للتطورات المهمة في مصر ، ويوكل أمر إدارة البلاد إلى قيادة أخرى يثق في قدراتها وأمانتها وإخلاصها ، وبدون شك ستكون الإجابة عن مثل هذا السؤال شديدة الصعوبة والإحراج أيضا ، الطريف أني قابلت عددا من السياسيين ورؤساء أحزاب معارضة يتمنون أن تطول فترة إدارة الرئيس مبارك لعدة أشهر أو حتى سنوات ، على أمل أن ينمو الحراك الشعبي الجديد وتتبلور رؤية ومشروع كاف لتحول ديمقراطي حقيقي يخلف الرئيس مبارك ، هذا ما سمعته بنفسي في حوارات مع بعضهم ، وهي آمال دافعها شدة الإحباط ، والقلق من المجهول بعد الرئيس ، والذي أصبح معلوما إلى حد كبير الآن ، على الأقل في صفته وجهة القدوم . [email protected]