تجاوزت المعارضة المصرية للتطبيع العلاقة بين مصر وإسرائيل، لتمس علاقة مصر بدول أخرى، هذا ما كشفته مؤخرًا الضجة التي أثيرت حول الأزمة الدبلوماسية بين مصر وفرنسا، بسبب عرض فيلم سينمائي بعنوان "شبه طبيعي" للمخرجة الإسرائيلية كيرين بن رفائيل، التي عملت لفترة في الجيش الإسرائيلي في إطار مهرجان سينمائي ينظمه المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة. وعلى إثر ذلك، أعلن عدد من أعضاء لجنة التحكيم بالمهرجان اعتراضهم على عرض الفيلم الإسرائيلي، بعد أن كشف عنه المخرج أحمد عاطف، وهدّد بالانسحاب من لجنة التحكيم في حال السماح بعرضه في فعاليات المهرجان، باعتباره نوعًا من التطبيع السينمائي، وتضامن معه عدد من الفنانين مثل آسر ياسين والمخرجة كاملة أبو ذكري اللذين أعلنا أيضا الانسحاب من لجنة التحكيم. كان انسحاب أعضاء اللجنة بمثابة ورقة ضغط على الجهة المنظمة للمهرجان، وبعد مشاورات بينها وبين وزارة الخارجية الفرنسية تقرر رفع الفيلم من قائمة الأعمال المشاركة في المهرجان، وقوبل هذا القرار بترحيب كبير من قبل الفنانين المصريين، الذين كان انسحابهم علامة استفهام كبيرة امتدت لتقف أمام طبيعة عمل المراكز الثقافية الأجنبية في مصر عموماً، فمن المعروف أن هذه المراكز تقوم بنشاط ثقافي كبير، وتحظى باحترام غالبية المثقفين المصريين، إلا أنها من جهة أخرى تظل في قفص الاتهام بالنسبة لعدد من المثقفين، الذين يتهمونها أحيانا بأنها تمثل غزوا ثقافيا أو اختراقا للثقافة المصرية، وتحاول تمرير قيم ثقافية خاصة بالمجتمعات الغربية، وغير مرحب بها في المجتمع المصري. قرار سحب الفيلم من المهرجان لم يمر بسلام، إذ أثار ردود أفعال عنيفة في أروقة وزارة الخارجية الفرنسية، بحسب ما أوردته هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" إذ دار سجال إعلامي بين وزارة الخارجية الفرنسية ونظيرتها المصرية، واعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية قرار الفنانين المصريين شخصيًا ويجب أن يُحترم، وأنه ليس من حق الجانب الفرنسي إجبار الفنانين المصريين على اتخاذ موقف بعينه، فالمشاركة من عدمها حق أصيل لهم، انطلاقا من رؤيتهم وتوجهاتهم، لكن يبقى القرار الصادم الذي اتخذته الخارجية الفرنسية دليلا على الانحياز الكامل لرؤية أحادية الجانب، تستند إلى الضغط الصهيوني لتمرير التطبيع الثقافي، وعدم احترام لرغبة ورؤية المثقفين أو الفنانين الذين اعترضوا على مشاركة الفيلم الإسرائيلي في المهرجان. المشكلة الحقيقية أن الأمر لم يتوقف عند سياقه الثقافي أو الفني، بل امتد بسرعة كبيرة إلى الدوائر السياسية، ما يهدد بتصاعد الأمر ليفتح ملفات أخرى، حول طبيعة الدور الذي تقوم به المراكز الثقافية الأجنبية في مصر، وفقا لمواقف دولها من القضايا الكبرى التي تهم المصريين، ليصبح هذا المهرجان مجرد حدث أو بداية لخطوات أخرى، ربما يتخذها الوسط الفني أو الثقافي في مواجهة محاولات التطبيع، وفي الوقت نفسه بداية لتقييم جديد للدور الثقافي الذي تلعبه المراكز الثقافية الأجنبية، وما إذا كان هذا الدور نوعا من التواصل والتفاعل الثقافي، أم أنه يدخل في إطار الغزو الثقافي للمجتمعات العربية. عادة ما يكون المجال الثقافي هو حائط الصد الأخير أمام محاولات اختراق المجتمعات، إلا أن السينما بالتحديد أثبتت في الفترة الأخيرة أنها حائط الدفاع ضد التطبيع، أو محاولة فرض وجود الكيان الصهيوني والاعتراف به على الساحة العربية، وهو ما اتضح من خلال عدة أحداث، كان من ضمنها موقف المخرج يسري نصر الله وعدد من المخرجين العرب من الاحتفالية التي نظمها مهرجان تورنتو السينمائي في كندا لإسرائيل، ويأتي الموقف الأخير المتعلق بمهرجان المركز الثقافي الفرنسي ليثبت هذا الأمر، ويؤكد على طبيعة الموقف الشعبي، والنخبوي على السواء، الرافض للتطبيع مع إسرائيل، أو إقامة علاقات معها من أي نوع، على عكس المواقف الرسمية.