فقه الحياة هنا ميدان واسع، يشمل الصناعة وفنونها والزراعة وعلومها وكيفية استجلاب الخبرة التي تساعد البيئة الإسلامية على أن تأكل طعامها من أرضها، وتصنع سلاحها في مصانعها، وتعالج نفسها بدواء صنع في معاملها ومختبراتها لتكتفي ذاتيًّا، وتصبح مستقلة الإرادة مستقلة القرار، لا تخضع لضغوط بوقف القروض أو نُهدَّد بمنع المعونات كما تعيش الآن. وبمنطق الدين تتحول الصناعة والزراعة وإدارة الأموال واستثمار الطاقات إلى فريضة دينية مهمة تعدل الصلاة والصيام والحج. وكل تفريط فيها أو إهمال لها يعد بلغة القانون خيانة عظمى. كما يعد بالمصطلح الشرعي ردة عملية عن دين الله تحرم المجتمع من النمو والحركة وتساعد أعداءه على النيل من دينه وكرامته. ولهذا يحتاج تحقيق الخلافة عن الله إلى علم غزير يتعدى حدود أحكام الصلاة والصيام والحج إلى فقه الخلق الذي يعنى بمعرفة السنن الكونية، وأسباب الهزائم والانكسارات، ويستقرئ التاريخ في الماضي ويستشرف المستقبل، ويسيطر بأحدث أساليب العلم الحديث على مقدراته، ويستثمر الطاقات الموجودة بأفضل الوسائل والطرق. ولن يتحقق هذا إلا بإنشاء وتكوين معاهد ومؤسسات علمية جادة تعنى بالدراسات الاستراتيجية، ويتفرغ لها أصحاب الكفاءات من ذوي الاختصاص -وهم بفضل الله كثيرون- ذلك لأن الرؤية الفردية لم تعد قادرة وحدها على مواكبة واستيعاب ما يستجد مع كل يوم في الحياة اليومية. كما أن عملية اتخاذ القرار نفسها تتطلب أنواعًا من المعلومات قد لا تتوفر لفرد بذاته مهما كان ذكيًّا. وهذا التصور قد أخذت به كل دول العالم المتقدم وأصبحت هذه المؤسسات هي مصدر القرار في تلك الدول. ولكي يخرج المسلمون من هذا المأزق المأساوي، ولكي لا تبقى مواقفنا مجرد ردود أفعال لابد من وجود هذه المؤسسات ليتحقق فقه الحياة بجانب فقه الفرائض. وهذا الفقه لا تقوم به إلا هذه المؤسسات التي أشرنا إلى ضرورة وجودها لتكثيف عملية الوعي بأحداث الحاضر، ودراسة واستشراف المستقبل على ضوء التطورات التي تحدث كل يوم حتى نستطيع أن نعيش عصرنا، وفي الوقت نفسه لا نتخلى عن ثوابت ديننا وعقيدتنا، ولا نفرط في قيمها أبدًا وبذلك تنتهي وتنتفي تلك الثنائية الممقوتة التي شاعت وروج لها العلمانيون كثيرًا وهي: إما العقل وإما النقل، إما العلم وإما الدين. وطبيعي أن الإسلام لا يعرف هذه الثنائية ولا يعترف بوجودها أبدًا، ذلك لأن الشرط الأساس في الخلافة عن الله بعد الإيمان به هو العلم. وهذا العلم بطبيعة الحال لا يتحقق بفرع واحد ولا بتخصص واحد، وإنما لابد فيه من تكامل العقل والقلب، وتكامل العلوم المادية والمعنوية، أو النظرية والتطبيقية أو العلوم الإنسانية والتجريبية كما تتكامل القيم في منهج الإسلام الذي هو دين الله الخاتم لكل الرسالات. * * * * رئيس مجلس إدارة المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية رئيس إذاعة القرآن الكريم بسيدني