بِغضّ النظر عن هوية الجهة التي نفّذت عملية "عبسان" جنوب قطاع غزة الجمعة الماضية، والتي أسفرت عن مقتل نائب قائد كتيبة في لواء الصفوة "جولاني" في الجيش الإسرائيلي، فإنه مما لا شك فيه أن تنفيذ هذه العملية يكتسب دلالات واضحةً وذات مغزًى في هذا الوقت بالذات، فسواء كان منفّذ العملية حركة حماس كما أعلنت الحركة، أم غيرها من الفصائل، فإن هذه العملية تفضَح زيف الادّعاءات القائلة بأن حكومة حركة حماس تحارب المقاومة وتتعقب المقاومين، فواضح أن مَن ينفّذ العملية ويعلن عنها يعي أنه لن يكون عرضةً للمساءلة والعقاب من قِبل حكومة غزة، لذا فقد مثّلت العملية ضربة قوية للتيار المتنفّذ في حركة "فتح" الذي مرد على الزعم بأن حركة حماس تقوم بنفس ما تقوم به حكومة فيّاض في الضفة الغربية من منع للمقاومة وتعقّب لها، بل أن التيار المتنفّذ في فتح حرص على شن حملة دعائية لتكريس هذا الزعم، من هنا فإن المرء يعي حجم الإحباط والحرج الذي أصاب رءوس هذا التيار في أعقاب العملية، حيث أن أيًّا منهم لم يتفوّه بكلمة واحدة. ومما لا شك فيه أن هذه العملية جاءت لتثبت أنه على الرغم من كل محاولات التشهير بحماس وكيل التهم لها، وتحديدًا قذفها بترك خيار المقاومة، فإن هذه العملية جاءت لتؤكِّد أن حركة حماس كحركة مقاومة ملتزمة بالعمل على إيذاء الاحتلال، من خلال توظيف بنية عسكرية وبشرية متكاملة تُستخدم بشكل خلَّاق وقت الحاجة، في نفس الوقت فإن هناك دلالات واضحة لتوجّه الآلاف من أنصار الحركة إلى منزل عائلة الشهيد محمود المبحوح للتأكيد على أن العملية جاءت انتقامًا لدمائه الزكية، فقد توعدت حماس بالرد وكان الرد وبشكل نوعي. من الأهمية بمكان أن نشير إلى أن هذه العملية النوعية الأولى التي تأتي بعد العدوان الإجرامي الصهيوني على القطاع، حيث أن منفذي العملية أثبتوا أنه ليس بوسع إسرائيل قهر إرادة المقاومة رغم ما تكبدته من خسائر خلال العدوان الأخير. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تمثل هذه العملية نقطة تحول فارقة في الواقع الأمني في قطاع غزة، وهل تضع هذه العملية حدًّا لحالة التهدئة غير المعلنة في القطاع؟ يجب أن نلفت الأنظار إلى حقيقة أن عملية عبسان نفّذت داخل قطاع غزة وليس داخل فلسطين 48، علاوة على أنها استهدفت وحدة عسكرية تمثل نخبة النخبة في الجيش الإسرائيلي، ويمكن القول أن هذه العملية دلَّلت بشكل لا يقبل التأويل على جاهزية المقاومة الفلسطينية واستخلاصها الكثير من العِبر من الحرب الأخيرة، فعملية التوغل التي خطط الجيش الإسرائيلي لأن تكون عملية أخرى تنضم إلى عدد كبير من العمليات التي قام بها منذ انتهاء العدوان الأخير جبت ثمنًا باهظًا من الجيش الإسرائيلي، لا سيما في الوقت الذي تباهى فيه الجيش الإسرائيلي بقدرته على استعادة الردع في مواجهة المقاومة الفلسطينية. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه إيهود باراك ورئيس أركانه جابي أشكنازي هدَّدوا برد "قاسٍ" وجباية ثمن كبير من المقاومة، ولا يمكن للمراقب أن يتوقع ردًّا غير هذا الرد، حيث أن هذه العملية تمثل أول تحدٍّ أمني حقيقي سيضطر نتنياهو لمواجهته بعد عام على توليه المنصب، لا سيما وأن قادة اليمين في إسرائيل دائمًا ما يدعون بأنهم الأقدر على معالجة التحديات الأمنية، في حكم المؤكد أن إسرائيل قررت الرد، وأنها تبحث حاليًا فقط مسألة التوقيت المناسب لتنفيذ عملية الانتقام، ولكنها في نفس الوقت فإن أي عملية إسرائيلية ستكون محكومة بعدد من الاعتبارات التي لا يمكن لنتنياهو تجاهلها. فنتنياهو الراغب جدًّا في الرد على العملية يخشى في نفس الوقت أن تؤدي عملية الرد إلى انتهاء حالة الهدوء النسبي في مستوطنات جنوبفلسطين 48، مع العلم أن هذا الهدوء يقدم إسرائيليًّا على أنه أوضح دليل على نجاح الحرب الأخيرة في تحقيق أهدافها، في نفس الوقت فإن هذه العملية جاءت في أوج أزمة العلاقات بين نتنياهو وباراك أوباما على خلفية البناء في المستوطنات، ونتنياهو يدرك أن شنّ حرب جديدة على القطاع يستلزم دعمًا أمريكيًّا وغطاءً دوليًّا، وهذا غير متوفر. في نفس الوقت فإن نتنياهو يرى أن أهم ملف يتوجب علاجه في عهده هو الملف النووي الإيراني، وهو يرى أنه يتوجب عدم تبديد الوقت والجهد والعلاقات على غير هذا الملف. إلى ذلك فإن إسرائيل لا تزال تعيش تداعيات تقرير لجنة "جولدستون"، وما نجم عنها من تدني مكانة إسرائيل الدولية، لكن على الرغم من ذلك، فإن هذا لن يحول دون الرد الإسرائيلي على العملية، لأنه في ظل حكم نتنياهو فإن المنطق السياسي والاستراتيجي ليس وحده الذي يملي السلوك الرسمي، فنتنياهو ضعيف جدًّا، وهو يحاول دائمًا استرضاء شركائه في الائتلاف ولو بثمن المسّ بمصالح إسرائيل، كما حدث في الأزمة الأخيرة مع الولاياتالمتحدة، وإذا أضفنا إلى ذلك الضغوط التي يمارسها بعض الجنرالات المتطرفين من أمثال قائد المنطقة الجوبية يوآف جلانت، فإن ردًّا سيكون على العملية، لكنه لن يتحول إلى عملية واسعة. بعض الجنرالات يضغطون حاليًا لاستئناف تصفية قادة ونشطاء الأذرع العسكرية للمقاومة، بالإضافة إلى توسيع عمليات القصف والتوغل واستهداف البنية التحتية للمقاومة، لكن هذا قد يقود إلى ردة فعل من المقاومة على شكل إطلاق الصواريخ، بما يفضي إلى مواجهة شاملة. المصدر: الاسلام اليوم