"اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين!" دعاء غريب يردده البعض وهو يدل على جهل بالسنن الإلهية، فالشعوب لا تصل إلى السلامة والأمن بضرب الظالمين بالظالمين وإنما بوجود الحكم العادل لأن (العدل أساس الملك). لن يكون هناك أمن حقيقي ودائم في سورية ما لم تتوصل نسبة كبيرة من السوريين إلى قناعة مفادها أن الأمن يجلبه العدل وأن العدل لا يتحقق إلا إذا وجد من يطالب به ويدافع عنه ف(المال الشادر يعلم السرقة) كما يقولون ومن الطبيعي عندما يصادف شخص عنده طبيعة الاستبداد شعباً مستعداً للسكوت على الظلم والتنازل عن حقوقه أن يستبدَّ به! تغيير قناعات الناس مهمة صعبة وطويلة ولكنها الطريق الوحيد لإحداث تغيير حقيقي ودائم في واقعهم ( إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). هناك طريقتان لتغيير قناعات الناس: الطريقة الأولى، الإقناع بالمحاججة المنطقية، فأنا أريك خشبة تحترق في النار لأقنعك بأن عليك أن تبتعد عن النار، إذا لم تنجح هذه الطريقة فلا بد عندها من اللجوء إلى الطريقة الثانية وهي وقوع أحداث ذات أثر حسي ونفسي شديد الوطأة يدفع الناس إلى تغيير قناعاتهم بعد أن لمسوا (بالواقع والمعاناة والمرارة والألم) خطأ قناعاتهم السابقة وبؤسها، وذلك يشبه في مثالنا السابق من يمسك بيد شخص بالقوة ويضعها في النار ليقنعه بأن عليه أن يبتعد عن النار (حتى صحابة الرسول كانوا في مرحلة من المراحل بحاجة إلى هذه الطريقة، فالكلام لم يكن كافياً لغرس أهمية طاعة الرسول في نفوسهم إلى الدرجة التي أرادها الله لهم، لذلك كانت هزيمة أحد وما فيها من ألم حسي ومعنوي شديد، انتقلوا بعدها إلى مستوى آخر من الطاعة والالتزام بما يقوله لهم رسولهم محمد عليه الصلاة والسلام). نعم، في التاريخ أمثلة كثيرة عن شعوب لم تغير قناعاتها إلا بعدما (وُضعت في النار بالقوة) أي بعدما عانت وتألمت ولمست بشكل مادي محسوس خطأ هذه القناعات. الشعوب الأوربية مثلاً؛ دفعت ثمناً غالياً جداً من أمنها ودمائها طوال قرون من الثورات والاضطرابات والحروب الأهلية والحروب فيما بينها - التي انتهت بالحربين العالميتين اللذين راح ضحيتهما مئات الملايين من البشر - حتى وصلت إلى القناعة بأن النظم المستبدة التي تؤلّه الأشخاص وتصادر إرادات شعوبها وتفرض وصايتها عليهم تجر البلاد والعباد إلى الويلات وأن ضريبة محاربة الاستبداد أقل بكثير من ضريبة السكوت عليه (لعل ما يحدث في العراق اليوم هو النار التي ستطهر نفوس العراقيين من الرضا بالاستبداد، وإلى أبد الآبدين). منذ خمسة أعوام وبعد أحداث 11سبتمبر قال لي رجل من علماء التاريخ في دمشق: (سيكون لهذا الحدث تداعياته الرهيبة، وسترى كيف أن أيامنا هذه بكل ما فيها من سلبيات هي أعياد مقارنة بالأيام السوداء القادمة) وتنبأ بأن الآتي هو الأعظم! ظننت يومها أنه متشائم لكنني اليوم تزداد قناعتي بأن الآتي هو الأعظم... كلما رأيت كثيراً من السوريين يرفعون أيديهم إلى السماء ويدعون الله أن "يضرب الظالمين بالظالمين ويخرجهم من بينهم سالمين!" تزداد قناعتي بأن الآتي هو الأعظم... كلما سمعت كثيراً من السوريين يتكلمون عن أن شيئاً ما لن يتغير في سورية وكلما رأيت سلبيتهم ومحاولاتهم المستميتة لإقناع أنفسهم أنه ما باليد من حيلة وأنه ليس عليهم أن يفعلوا شيئاً أو يغيروا شيئاً حتى في طريقة تفكيرهم، تزداد قناعتي بأن الآتي هو الأعظم... كلما رأيت كثيراً من السوريين يلعبون دور الضحية و يؤكدون أن ما وصلوا إليه هو نتيجة للظلم والبطش الذي تعرضوا له وليس نتيجة للتصورات التي تربوا عليها والتي يربون أبناءهم عليها (مادخلنا!) و(يصطفلوا!) و(بنمشي من حيط لحيط وبنقول ياربي الستر) و(حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس) و( ياللي بيتجوز أمي بيصير عمي!) وغير ذلك من التصورات التي تصنع الشعوب الخانعة، تزداد قناعتي بأن الآتي هو الأعظم... كلما لمست التفكير الخرافي الذي يحمله كثير من السوريين في رؤوسهم والذي خلاصته أن سنن الله كلها ستتعطل عند سورية وأن التغيير الذي شمل العالم كله سيستثني سورية (الشام الله حاميها)، تزداد قناعتي بأن الآتي هو الأعظم... كلما رأيت اللامبالاة التي يتعامل بها كثير من السوريين مع الإعصار القادم إلى بلادهم وكيف يناقشون الأمور بتبسيط وتسطيح مذهلين (لن يتغير شيء في سورية لأن أمريكا واسرائيل لن يجدا نظاماً يخدمهما أفضل من النظام السوري) وكأن أمريكا واسرائيل هما إله لا ترد إرادته! يبدو أن مرضنا الفكري والنفسي قد تجاوز مرحلة العلاج بالكلام والكتب والخطب والمقالات وأننا أصبحنا بحاجة (والله أعلم) إلى المعاناة الهائلة وإلى الألم الحسي والنفسي الشديد حتى نقتنع بأن (الأمن يجلبه العدل وأن العدل لا يتحقق إلا إذا وجد من يطالب به ويدافع عنه وأن ضريبة السكوت على الظلم أفدح بكثير من ضريبة محاربته، وأن أي نظام سياسي شمولي قائم على الظلم وعدم احترام كرامة الناس يجر شعبه إلى الهاوية لأنه يولد تناقضات في داخله وفي علاقته مع شعبه وفي علاقته مع العالم، هذه التناقضات تتراكم تدريجياً حتى تنفجر في النهاية مؤدية إلى انهيار فظيع). هذا قانون إلهي يحدد العلاقة بين العدل واحترام كرامة الناس من جهة والأمن والاستقرار من جهة أخرى وهو مثل قانون الجاذبية ينطبق على كل الناس في كل زمان وفي كل مكان والويل لمن يجهله أو يتجاهله! الموضوع ليس ما يريده النظام السوري أو ما تريده أمريكا واسرائيل، الموضوع هو أنًّ أحداً لا يستطيع تعطيل القوانين والسنن الإلهية (سنة الله في الذين خلوا من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلاًُ ولن تجد لسنة الله تحويلاً)، وأي اعتقاد بغير ذلك ستكون ضريبته فادحة (تماماً كالضريبة التي يدفعها من يرمي بنفسه من الطابق العاشر معتقداً أن الله سيعطل قانون الجاذبية من أجله!) طبعاً هذا لا يعني أنه لم يعد للكلمة وللأفكار الصحيحة دور في هذه المرحلة، بل على العكس تماماً إن أهميتها تتضاعف اليوم، فإذا كانت الظروف الصعبة التي ستمر بها سورية هي المخاض الأليم الذي لابد منه لولادة مجتمع سوري سليم تحمل غالبية أفراده الأفكار الصحيحة المنسجمة مع القوانين والسنن الإلهية فإن وضع هذه الأفكار في متناول الناس (في الوقت الذي تتلقى فيه أعصابهم بشكل مادي محسوس ما يؤكد صحة هذه الأفكار) سيسرع من اقتناعهم بها وسيساعد على انتهاء هذا المخاض في أقصر فترة ممكنة وبأقل ألم ممكن.