نرى حولنا من تداول الأحوال على الناس من فقر إلى غنى إلى مرض إلى عز إلى ذل إلى حوادث مفاجئة إلى مصائب إلى كوارث إلى نجاح إلى فشل، ليست أمورًا عبثية ولا مصادفات عشوائية، إنما هي ملابسات محكمة من تدبير المدبر الحكيم الذي يريد أن يفض مكنون النفوس ويخرج مكتومها. (والله مخرج ما كنتم تكتمون). ولهذا خلق الله الدنيا ليعرف الضعيف ضعفه، وليعرف القوى قوته، ولتفتضح الدعاوى الكاذبة، ويتم العدل باقتناع كل نفس باستحقاقها وبعدالة مصيرها النهائي في أعلى عليين أو أسفل سافلين. خلق الله الدنيا ليحق الحق ويبطل الباطل. ويصدق أيضًا الكلام الذي يقول: إن الله خلقنا ليعطينا. فهو كلام يؤدى بنا إلى نفس المعنى. فهل يصح عطاء إلا بمعرفة الاستحقاقات أولًا ليكون العطاء حقًا. إن معرفتنا لأنفسنا أيضًا مطلوبة لتكون قناعة كل واحد بعطائه قناعة حقيقية.. ولينتفى الاعتراض. فمعرفة النفوس لحقائقها.. ومعرفة الإنسان لخالقه.. هي الحكمة من خلق الدنيا. (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا) وما كانت هذه المعرفة لتتم إلا بالدم والدموع، لأن النفوس ما كانت لتبوح بأسرارها وحقائقها إلا بالدم والدموع. ولأن كلَّ من يخفي حقيقته وراء أقنعة غليظة من الشعارات والأكاذيب، ويسدل على وجهه حجابًا من الافتعال والتمثيل وبسمات النفاق والملاطفة والمجاملة. فكان لا بد من حادث عنيف ليخترق هذه الحجب. والدنيا كانت ذلك الحادث. لقد أخرجنا الله من العدم وكان كل منا حقيقة مكنونة وأعطى كلًا منّا اليد والقدم ليضر وينفع. فأما الذين تحروا النفع والبر والخير فهم أهله.. ومأواهم إلى ظله يوم لا ظل إلا ظله. وأما أهل الضرر والأذى والظلم فهم المبعدون عنه وعن رحمته.. والبعد عن الله نار.. لأن كل ما سوى الله نار.. وعلامة أهل الله هى عرفانهم لربهم من قبل لقائه.. أن يعرفوه في هذه الدنيا.. وأن يشهدوا الدنيا دالة عليه. وكلام القرآن بأن الله خلقنا لنعبده هو كلام يشتمل على كل هذه المعاني السالفة في باطنه. وحينما تقول الآيات: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فإنها تعنى بداهة. وما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفون. لأنه لا عبادة بلا معرفة. والمعنى أنه خلقنا لنعرفه، فإذا عرفناه عبدناه.. وإذا عبدناه تفاضلت عبادتنا، وتفاضل إيماننا وإنكارنا، وتفاضلت منازلنا.. وبالتالي استحقاقاتنا حسب ما نتعرض له من امتحانات في الدنيا.. وبالتالي تفاضل العطاء من المعطي. وعطاء الله مبذول للكل. (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا) فالله خلق ليعطى.. وكلنا مستحقون للعطاء بحكم رتبة العبودية، وكل هذه المعاني باطنة في كلمة (ليعبدون). (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) أما الذى يقول إن الله خلقنا لأنه خلق ولا بد للخالق أن يخلق، فقد أوجب على الله أن يخلق هذا أو يخلق ذاك... ولا حق لأحد أن يوجب على الله شيئًا. ولا يوجد قانون يوجب على الله شيئًا. لأنه لا توجد سلطة أو حكم خارج عن الله أصلًا، وإنما الله يخلق ما يشاء. ومشيئة الله لا تحدها قوانين.. لأنه سبحانه مصدر جميع القوانين. والمشيئة مردودة إلى الله وبالتالي ليست مسببة بحيث يمكن أن نسأل: ولماذا خلق الله هذا ولم يخلق ذاك؟ إن (لماذا) هنا لا مكان لها بتاتًا ولا يصح أن توجه. سبحانه (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون). آمنت بكلمات الله على مراد الله. فوزى فهمى محمد غنيم