للمرة الثانية خلال فترة وجيزة، تكرر معظم فئات المعارضة المصرية، نفس الخطأ الذى وقعت فيه فى واقعة خطف الجنود السبعة، فى تعاملها مع قضية تحويل مجرى النيل الأزرق، فبدلاً من أن تتعامل مع هذه القضية من منطلق أنها قضية وطنية تمس الأمن القومى المصرى الذى يجب أن يعلو على أى اعتبار آخر، وجدنا المعارضة تلجأ إلى المزايدات السياسية وتصفية الحسابات، وتحاول - كما فعلت فى قضية الجنود - أن تستغل الموقف للنيل من رئيس الجمهورية وتحميله مسئولية البدء فى مشروع السد مع أن الحديث عنه يمتد لسنوات سابقة، وتم وضع حجر الأساس له منذ عامين. ولم يكتف البعض بذلك، بل حاولوا لمز الرئيس والإخوان فى وطنيتهم واتهامهم بالتواطؤ مع إثيوبيا فى استمرار للمسلسل الهابط باتهام الإخوان ببيع أجزاء من الوطن، مثلما اتهموهم ببيع حلايب للسودان، وسيناء للفلسطينيين، والقناة لقطر، ولا أدرى إذا استمر مسلسل البيع هذا - على حد زعمهم - هل سيجد الإخوان شيئا يحكمونه؟! بعيدًا عن هذه المهاترات التى تثيرها المعارضة علينا التوقف حول طريقة التعامل مع هذا التحدى والبدائل والخيارات المطروحة أمام صانع القرار فى مصر لمواجهته. أول ما يلاحظ حول هذه الأزمة هو غياب المعلومات الدقيقة والموثقة حول هذا السد والمخاطر الحقيقية المترتبة عليه، ومن يطالع آراء الخبراء والمتخصصين فى هذا المجال يجد تضاربًا كبيرًا فى آرائهم، فالبعض وهو العدد الأقل ذهب إلى عدم وجود مخاطر وأثار سلبية للسد على مصر، بل ذهب بعضهم أنه ربما يحقق بعض الأثار الإيجابية، أما العدد الأكبر فقد ذهب للتأكيد على الأثار السلبية للسد على مصر، وإن تباينت الآراء حول مدى وحجم هذه الأثار. إن هذه الآراء تعكس غياب المعلومات الدقيقة حول هذا السد والذى يمكن بناء رأى علمى على أساسها يوضح بدقة حقيقة مدى الأثار السلبية المترتبة عليه، ولذلك كان من الحكمة انتظار تقرير اللجنة الثلاثية المشكلة من مصر والسودان وإثيوبيا وخبراء دوليين محايدين لدراسة هذا السد، والتى انتهت بالفعل من عملها، وإن لم يعلن عنه رسميًا حتى الآن. إن هذا التقرير بعيدًا عن مدى إلزاميته هو وثيقة علمية لها مصداقيتها، خاصة أن الأطراف الثلاثة مصر والسودان وإثيوبيا ممثلة فيها، فهذا التقرير يعطى للخبراء فى مصر معلومات دقيقة يمكن من خلالها معرفة الأثار المترتبة على بناء السد بدقة. وفى كل الأحوال وأيا كان مدى تأثير هذا النهر، فإنه ينبغى توجيه رسالة واضحة ليس فقط لإثيوبيا ودول حوض النيل، بل للعالم بأسره، بأن مصر لن تقبل بأى حال من الأحوال المساس بحصتها من مياه النيل، كما أنها لن تقبل بقيام دول المنبع بإنشاء سدود أو أى أعمال هندسية تؤثر على حصة مصر دون إخطار، وموافقة مصرية مسبقة، وهذه حقوق تاريخية أكدتها المعاهدات والاتفاقات الدولية التى لا مجال للمساس بها، كما يجب التأكيد أن جميع الخيارات مفتوحة فى التعامل مع هذه الأزمة، وأن من الخطأ تصور أن الأوضاع الداخلية فى مصر، قد تؤثر على موقفها أو تدفعها للتهاون فى حقوقها. وإذا كان من المستهجن مسارعة البعض إلى دق طبول الحرب والمطالبة باللجوء للخيار العسكرى، كما فعلوا مع واقعة خطف الجنود فى سيناء، فإنه ليس من الحكمة إعلان استبعاد الخيار العسكرى كما أعلن وزير الرى. إن الخيار العسكرى ينبغى أن يبقى الخيار الأخير الذى يتم اللجوء إليه إذا أصمت إثيوبيا أذنيها عن الاستجابة لصوت العقل والمنطق، وإذا لم تدرك أن قضية المياه هى قضية موت أو حياة، وأنه لا جدوى من وجود قوات مسلحة إذا لم تتحرك فى مثل هذه الأزمة. إن هناك العديد من الخيارات للتحرك أمام مصر ومنها:-الخيار الأول: التفاوض المباشر مع إثيوبيا، للتفاهم على بناء السد بما يحقق مصالح إثيوبيا دون الإضرار بمصالح مصر وفق القاعدة التى وضعها الحديث الشريف "لا ضرر ولا ضرار"، من خلال مشاركة مصرية فعالة فى متابعة بناء وإدارة السد، هذا إذا كان وجود السد فى حد ذاته لا يمثل خطرًا على مصر. إن على مصر أن تطرح على إثيوبيا ودول حوض النيل التعاون فيما بينها لتحقيق الاستغلال الأمثل للمياه من خلال مشروعات مشتركة، خاصة أن المستغل فعلاً من المياه لا يتعدى 5% من مجموع ما يزيد عن 1600 مليار متر مكعب من المياه تذهب هدرًا، كما أن على مصر أن تمد يد العون الفنى لمساعدة إثيوبيا ودول حوض النيل بصفة عامة. الخيار الثانى: اللجوء للمنظمات الإقليمية والدولية لدعم الموقف المصرى الذى تسانده المعاهدات والاتفاقات الدولية فضلاً عن قواعد القانون الدولى التى تحكم العلاقات بين الدول المشتركة فى الأنهار الدولية. الخيار الثالث: التدخل لدى الجهات والدول المشاركة فى عملية بناء السد أيا كانت صور هذه المشاركة، وتوجيه رسالة واضحة إليها أن موقفها يشكل عملاً عدائيًا ضد مصر سينعكس بالسلب على علاقاتها بنا. الخيار الرابع: تقوية العلاقات المصرية مع الدول المعادية لإثيوبيا، وعلى رأسها إريتريا والصومال، وتقديم كافة صور الدعم لها، وعلى رأسها الدعم العسكرى، وكذلك دعم حركات المعارضة الإثيوبية. الخيار الخامس: الخيار العسكرى والذى ينطبق عليه قول العرب "آخر الدواء الكى"، فيجب أن يكون الخيار الأخير إذا انقطعت جميع السبل، وأوصدت كل الأبواب. وإذا كان على صانع القرار أن يتصرف بهدوء وعقلانية فى التعامل مع هذه القضية مع الإصرار والحزم فى التمسك بحقوق مصر التاريخية، فإن هذه القضية ينبغى أن تطرح وبقوة، قضية نقص المياه أو بمعنى أدق الفقر المائى فى مصر، وهى القضية التى يجب أن تشغلنا جميعًا حتى فى ظل احتفاظ مصر بحصتها الحالية من مياه النيل والبالغة 55.5 مليار متر مكعب، وهى حصة لا تكفى مصر الآن، فضلاً عن الاحتياجات المتزايدة فى المستقبل، لهذا يجب العمل فى نفس التوقيت على معالجة هذه المشكلة على صعيدين: الأول ترشيد استهلاك المياه ونشر الوعى بين المواطنين، وفرض عقوبات رادعة على إساءة استخدام وإهدار المياه، ومعالجة الصور السلبية المنتشرة فى المجتمع، فيما يخص استخدام المياه، ابتداءً من رش الشوارع بخراطيم المياه والصنابير التى لا تنقطع المياه عنها ليلاً أو نهارًا، مرورًا بإهدار المياه عن طريق الزراعة بطريق الغمر، واستخدام المياه فى ملاعب الجولف، إلى غير ذلك من صور إساءة استخدام المياه فى بلد من المفترض أنها لا تملك مثل هذا الترف. الثانى: البحث عن بدائل لزيادة نصيب مصر من المياه مثل الآبار وإعادة استخدام مياه الصرف، وتحلية مياه البحر، فضلاً عن التعاون مع دول حوض النيل من خلال مشروعات مشتركة لاستغلال المياه المهدرة، والتى ستعود بالنفع على الجميع. د.صفوت حسين عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.