بغضّ النظر عن حجم التأثير المتوقع لنتائج جلسات الحوار الذي راعته الحكومة الموريتانية بين عدد من العلماء ومعتقلين محسوبين على تيار "السلفية الجهادية"، فإن مجرد عقد الحوار في حد ذاته، وبرعاية رسمية بمستوى رئاسة الدولة، يشكل دلالة جديدة على نزوع المزيد من دول المنطقة إلى النأي بنفسها عن الحرب الأمريكية على الإرهاب، بعد رحيل راعيها الأبرز جورج بوش وإدارته، التي جعلت من تلك الحرب أولوية مطلقة على أجندتها، رافعةً شعار "من ليس معنا، فهو ضدنا"، لكن الأجواء اختلفت حاليًا، ولم تعدْ كثيرٌ من الدول تحبِّذ الانخراط في معارك ومواجهات لا نهائية، وتتحمل خلالها أعباء مادية وأمنية وسياسية ضخمة، فضلًا عن كلفتها الاقتصادية، المتمثلة في تعطُّل خطط التنمية وهروب رءوس الأموال الأجنبية أو عزوفها أصلًا عن القدوم للاستثمار في أجواء مضطربة. ويتجلى هذا العزوف بجلاء في التجربة الليبية، حيث قاد سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي معمر القذافي، في السنوات الأخيرة حوارًا غير مسبوق مع قادة الجماعة الإسلامية المقاتلة في السجون، انتهى بإصدار هؤلاء القادة لمراجعات فقهية تتضمن تراجعَهم عن أفكار العنف والتكفير، وإقرارهم بما وقع من أخطاء خلال مرحلة الصِّدام مع الدولة، وقد تزامن مع ذلك الحوار إطلاق سراح دفعات من معتقلي الجماعة، حتى أصبح إغلاق ملف معتقلي الجماعة نهائيًّا أمرًا مطروحًا على بساط النقاش، مع أن النظام الليبي كان في السابق هو الأعنف في التعامل مع ملف الإسلاميين، حتى أولئك الذين لم يعرف عنهم يومًا تبني فكر العنف. حسابات المكسب والخسارة توجه "سيف الإسلام القذافي" لمحاورة معتقلي "الليبية المقاتلة" لم يكن فقط نابعًا عن تعاطف إنساني أو رغبة في إغلاق ملفات الماضية المؤلمة، لكنه في الأساس عكس توجهًا مستقبليًّا لدى القذافي الابن، يستهدف الانفتاح على الخارج، وفتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية لضخّ دماء جديدة في شرايين الاقتصاد الليبي المتجمدة، وذلك لم يكن ممكنا في ظل الأجواء الأمنية الخانقة، ومع احتمالات وقوع تفجيرات ومواجهات مع عناصر مرتبطة بتنظيم القاعدة، خاصة بعدما أعلن قادة "الليبية المقاتلة" في الخارج البيعة لتنظيم القاعدة وقائده أسامة بن لادن، الأمر الذي جعل من الحوار ملفًّا عاجلًا. وقد كان اختيار الدكتور الشيخ علي الصلابي، المشهود له بالعلم والاستقلالية، كوسيط بين السلطات والجماعة، أمرًا موفقًا، حيث وفر حضوره أجواء من الثقة بين الطرفين، وكذلك فإن إصرار قادة الجماعة على إقرار ما ورد في المراجعات من قِبل نخبة من الفقهاء والعلماء الثقات من داخل ليبيا وخارجها، قبل تقديمها للنشر، منحها قبولًا وثقة لدى قطاعات ربما كانت لديها تخوفات من كون ما ورد فيها نتاجًا لإملاءات وضغوط أمنية. البيئة الموريتانية ونلاحظ هنا أن التجربة الموريتانية لا تختلف كثيرًا عن نظيرتها الليبية، فالبيئة الموريتانية حيث يسود المذهب المالكي، وتنتشر الطرق الصوفية وتتغلغل في مختلف فئات ومفاصل المجتمع، ليست بالمناخ المفضل لفكر العنف والتكفير، ولذا فإن بداية وصول ذلك الفكر للبلاد جاءت عبر الجزائر المجاورة، والتي عانت في حقبة التسعينيات مما يسمى "عشرية الدم"، حيث سقط أكثر من 150 ألف قتيل في صِدام دموي ما بين الدولة وجماعات مسلحة من مختلف أطياف "السلفية الجهادية". ورغم أن الإعلان عن ضبط أول تنظيم تكفيري بموريتانيا في عام 1994 جاء "استباقيًّا"، إذ اقتصرت الاتهامات على تلقي تدريبات؛ استعدادًا لتنفيذ هجمات لم تقعْ، إلا أن الرئيس الموريتاني –حينئذ- معاوية ولد الطايع أراد استغلال الحادث لتخفيف الضغوط الغربية على نظام حكمه الغارق في الفساد والموصوم بالدكتاتورية والقمع، حيث شنَّ حملة اعتقالات واسعة شملت مختلف النشطاء الإسلاميين، ومعظمهم لم يعرفْ عنه يومًا أي علاقة بالعنف وفكرِه، وذلك في رسالة ودّ للغرب، والذي يتخوف من كل ما هو "إسلامي". بذور العنف تنمو وفي ظلِّ أجواء الفقر والفساد والقمع، ومع توالي حملات الاعتقال الدورية للإسلاميين المعتدلين، سلفية أو إخوان مسلمين، وتأثرًا بالمناخ المحتَقِن الذي أوجدتْه الحرب الأمريكية على الإرهاب.. بدأ تنظيم القاعدة مع مطلع القرن الحالي في إيجاد موطئ قدم له في موريتانيا، وذلك عبر ذراع القاعدة الجزائري، وقد جاء الإعلان الأبرز عن هذا الوجود في يونيو 2005 من خلال الهجوم على قاعدة "لمغيطي" العسكرية، والذي أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى من العسكريين. وعندما أراد "ولد الطايع" الرد على ذلك بإرسال جيشه إلى مجاهل المثلث الصحراوي حيث الحدود مع مالي والجزائر، لمطاردة مقاتلي القاعدة الذين ينشطون في تلك المنطقة الوعرة، كان قادة الجيش قد توصلوا إلى قناعة بأن بقاء ولد الطايع في الحكم أصبح أكثر تكلفةً من الإطاحة به، ولذا فإنهم انتظروا فرصة سفره للخارج ليعلنوا انقلابهم عليه، طاويًا بذلك صفحة مريرة من تاريخ موريتانيا، استمرَّت لأكثر من 20 عامًا. مرحلة التهدئة وبخروج "ولد الطايع" من الحكم بدأت العلاقة مع الإسلاميين تتجه للتهدئة والاحتواء، حيث قام المجلس العسكري الجديد بإطلاق سراح العديد من المعتقلين، وفي هذا التوقيت بدأت المحاولات الأولى لفتح حوار بين المعتقلين المسحوبين على القاعدة والسلفية الجهادية من جهة والدولة من جهة أخرى، حيث يشير الشيخ "محمد الحسن ولد الددو"، أحد أبرز رموز السلفيين في موريتانيا والذي قضى ثلاث سنوات في سجون ولد الطايع، إلا أنه عرض على الجنرال "ولد محمد فال" إتاحة الفرصة للعلماء كي يحاورا هؤلاء المعتقلين، مع إطلاق سراح مَن لا توجد اتهاماتٌ بحقِّهم، وبالفعل تَمَّ إخراج البعض، لكن لم يتم الحوار. وعندما تَمَّ تنصيب الرئيس "ولد الشيخ عبد الله" عاود "ولد الدّدو" محاولاته، حيث تم بالفعل التعجيل بمحاكمة بعض المعتقلين وإطلاق من ثبتتْ براءتُه، لكن الأمور عادت مرة أخرى للتصعيد مع وقوع عدة هجمات استهدفتْ للمرة الأولى سائحين أجانب، كذلك وقع هجوم جديد على قاعدة عسكرية، كما استهدف آخر السفارة الإسرائيلية، وقد وجّهت أصابع المسئولية عن كل ذلك إلى تنظيم القاعدة، مما أدى لعودة الاعتقالات مرة أخرى، أما البداية الحقيقية لعجلة الحوار فقد دارت مع تنصيب الجنرال "محمد ولد عبد العزيز" رئيسًا، حيث عرض عليه "ولد الددو" الأمر، فأبدى ترحيبًا بذلك، وتَمَّ التمهيد لذلك عبر عقد مؤتمر موسع لمناقشة فكر العنف والتكفير والبحث في أسبابه، وجاءت الدعوة للحوار مع معتنقي هذا الفكر كأحد توصيات المؤتمر. انطلاق الحوار مدفوعة بتجارب النجاح الذي شهدته تجارب مماثلة في ليبيا والسعودية والسودان، وافقت الحكومة الموريتانية على تفويض العلماء في إدارة الحوار مع المعتقلين، حيث تَمَّ تشكيل لجنة مكونة من 17 عالمًا تولَّت في يناير الماضي إدارة جولتين من الحوار مع نحو 70 معتقلًا، ومع إدراك أعضاء اللجنة بوجود ثغْراتٍ في تشكيلها، تتمثل في وجود علماء محسوبين على السلطة وشاركوا في حملات تشويه رسمية طالت الإسلاميين خلال حكم ولد الطايع، تم إعادة تشكيل اللجنة لتقصر على ثلاثة أشخاص، هم "ولد الددو" و"محمد المختار ولد أمباله" والفقيه "أحمد مزيد ولد عبد الحق"، حيث قادوا جولة حاسمة من الحوار، انتهت بتوقيع الغالبية الساحقة من المعتقلين على وثيقة يقرون فيها بتوبتهم عما ارتكبوه من أفعال، ويتعهدون بعدم العودة للعنف وحمل السلاح مرة أخرى. وإذا كانت هذه النتائج المثمرة للحوار تنتظر ترجمتها لخطوات عملية، عبر إطلاق سراح من اعتُقِلوا ظلمًا، والتعجيل بمحاكمة من تورّط في أعمال عنف، فإن تقديرات المراقبين تتوقع حدوث ذلك قريبًا، حيث أن بديل ذلك، والمتمثل في خوض حرب مفتوحة مع مقاتلي القاعدة، يبدو أمرًا باهظ التكلفة، فالبنية الأمنية الضعيفة في موريتانيا لا تسمح للحكومة بفرض سيطرتِها على حدود مترامية الأطراف، معظمها صحارٍ وعرة، ويفاقم من صعوبة الأمر أن مالي المجاورة تدير اتفاقًا غير مكتوب مع نشطاء القاعدة يتضمن عدم التعرُّض لهم، في مقابل توقفهم عن العمل داخل مالي أو نقل السلاح عبرَها، كذلك فإن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، والذي ينشط في المناطق الجزائرية المتاخمة للحدود مع موريتانيا، يلجأ لنقل نشاطه عبر الحدود كلما تصاعدت الحملات الأمنية ضده، مما يصعب من مهمة الموريتانيين. الأولوية للتنمية وبربط ما سبق مع خطط حكومة ولد عبد العزيز الطموحة لجذب استثمارات أجنبية ضخمة للتنقيب عن النفط في منطقة المثلث الحدودي، حيث تجري بالفعل شركة توتال النفطية العملاقة عمليات تنقيب وحفر وسط مؤشرات على وجود احتياطات كبيرة قرب الحدود مع الجزائر، نجد أن توفير الهدوء في تلك المنطقة يبدو أمرًا بالغ الأهمية، وإذا كان ذلك متعذرًا من خلال القبضة الأمنية، فلا مفرّ من البحث عن صيغة اتفاق، أو هدنة غير مكتوبة، مع القاعدة، تتوقف بموجبها عن تنفيذ هجمات داخل الأراضي الموريتانية، مقابل أن تكفّ الحكومة يدها عن نشطاء الجماعة. وفي مقابل ذلك يذهب البعض لطرح رؤية مختلفة، معتبرًا أن هدف الحكومة من محاورة القاعدة هو عزلُ المجموعات المحسوبة على القاعدة عن غيرها من التيارات السلفية الأخرى، بما يحرمها من أي غطاء أو مبرر شرعي، وبالتالي تجفيف قدرتها على تجنيد مقاتلين جُدُد، بما يسهل مطاردة المجموعات الحالية وحصرها في أضيَق نطاق ممكن، خاصةً أن الفلتان الأمني في منطقة المثلث الحدودي لا يرتبط فقط بتنظيم القاعدة، إذ أنه ينشط في تلك المناطق تحالف وثيق ما بين مافيا التهريب وجماعات عشائرية تعمل صالح مَن يدفع أكثر، والقاعدة نفسها تعمل وفق هذا التحالف ولا تستطيع تجاوزه، ولذا فإن وقف عملياتها يحتاج لإجراءات أكثر تعقيدًا من الحوار أو حتى المطاردات الأمنية. المصدر: الإسلام اليوم