يحتفل الصوماليون في هذه الأيام بالذكرى السنوية الأولى لتنصيب الشيخ شريف شيخ أحمد رئيسًا للصومال، وانسحاب القوات الإثيوبية بعد أن أمضت عامين وعدة أسابيع متمركزةً في العاصمة (مقديشو) وعدد من كبريات المدن الصومالية، تعرض خلالها الشعب الصومالي لكافة صنوف العدوان والتهجير والإبادة الجماعية على يد عدو يعتبره كافة الصوماليين العدو الأول بالنسبة لهم. صدمة نفسية وأكاد أجزم بأن الألم النفسي الذي أصاب الشعب الصومالي برؤية الجنود الأحباش يتمركزون في مقر وزارة الدفاع ومعسكرات الجيش الصومالي كان لا يقلُّ في عمقه عن الألم البدني والمادي الناتجيْن عن عمليات القتل المنظَّم والقصف المدفعي المتعمَّد للأحياء والمناطق الآهلة بالسكان؛ فالعداء التقليدي بين الصومال وإثيوبيا، الذي تمتد جذوره إلى أكثر من ألف عام، غرس الشعور بالمهانة في أعماق الشعب الصومالي، وسبَّب صدمة نفسية ليس من السهل نسيانُها. شعبية التيار الإسلامي ورغم أن الشعب الصومالي يعتزّ بديانته الإسلامية وانتمائه إلى العالم العربي إلا أنه -نتيجة لعوامل تاريخية واجتماعية وثقافية متعددة- ظل بعيدًا عن المفهوم الصارم للشريعة الإسلامية، وكان التيار الإسلامي السلفي الجهادي -إن صح التعبير- يجد صعوبة في إيجاد قاعدة شعبية يرتكز عليها، رغم أنه متواجد في البلاد مند سبعينات القرن الماضي، إلا أن أوضاع البلاد الاقتصادية والأمنية قد تفاقمت بسبب الإحباط الشعبي الناشئ عن الصراعات القبلية التي أشعلها أمراء الحرب بعد الإطاحة بالحكومة المركزية في يناير عام 1991م، وإطلاع الجماهير على حقائق الصراع العسكري والفكري بين الإسلام والغرب، عبر استخدام ثورة تقنية الاتصالات الحديثة، فضلاً عن تجربة المحاكم الإسلامية التي ابتدأت بمحاولات فردية للحدِّ من الفلتان الأمني وانتهت بتنظيم سياسي وعسكري نجح خلال زمن قياسي في الإطاحة بزعماء الحرب وخلق حالة من الأمن والاستقرار كان الصوماليون يعتقدون أنهم لن يشهدوها من جديد.. كل هذه العوامل جعلت الشعب الصومالي يتجه ببصره إلى الإسلام كملاذ ومخرج من المعاناة التي يرزح تحتها، كما أن ظهور جيل من الشباب دارس ومتأثر بالفكر السلفي بعد الإطاحة بالحكومة العلمانية كان عاملاً آخر جعل التيار الإسلامي في الصومال يكتسب شعبية كبيرة في العقد الأخير، بعد أن انقضت على وصوله إلى الصومال أكثر من ثلاثة عقود ونصف من الزمن. 25 شهرًا من الصمود وفيما بين ديسمبر 2006 وحتى يناير 2008، احتلت القوات الإثيوبية مناطق عدة في الصومال، وهي الأقاليم الوسطى والجنوبية من البلاد على وجه التحديد. وقد أبدى الشعب الصومالي خلال تلك الفترة صبرًا وجلدًا أذهل العالم، وشنت المقاومة الإسلامية حرب عصابات لا هوادة فيها على معاقل الاحتلال والحكومة الفيدرالية الانتقالية المتحالفة معه برئاسة العقيد عبد الله يوسف. وكانت تلك الحرب مبينةً على استراتيجية (الكرّ والفرّ). ووقف الشعب بأكمله وراء المقاومة الإسلامية ورفعها إلى مصافِّ الأبطال التاريخيين، وكان الشعور السائد بين الصوماليين أنهم بعد أن أمضوْا عشرين عامًا يتقاتلون لأسباب قبليَّة وعشائرية، يقاتلون الآن ولأول مرة مند خمسمائة عام من أجل حقهم في اختيار نظام الحكم الذي يرغبون فيه، والذي كان هذه المرة التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية. نواقيس الخطر ورغم أن عددًا من المثقفين والزعماء التقليديين والمفكرين الإسلاميين قد حذروا من التمادي في إظهار الحماسة الدينية لدى شباب تنقصهم الدراية بأحكام الشريعة الإسلامية، وانتقدوا بعض التجاوزات التي ارتكبها عناصر من المقاومة الإسلامية المسلحة، كالتسرع في الحكم بالرِّدة عن الإسلام على كل من تُشتمُّ رائحة معارضته للحركات الإسلامية، والتصفية الجسدية لبعض المتعاونين مع الحكومة الفيدرالية دون التمييز بين جندي مسلح وموظف إداري في إحدى الهيئات الخدمية الحكومية.. رغم ذلك فإن الحماسة الغالبة كانت سيدة الموقف، مما جعل هذه الأصوات العاقلة تضيع في مهب العاصفة الهوجاء. الأمل في الانفراج عندما قرر الشريف أحمد ومؤيدوه -من أعضاء تحالف إعادة تحرير الصومال- البدءَ في التفاوض مع الحكومة الصومالية كانت هناك قناعة تولدت لدى معظم الأعضاء المتواجدين في أسمرة (إريتريا) بأن الوقت قد حان لوضع حدٍّ لمعاناة الشعب الصومالي. وكان المجتمع الدولي قد وصل أيضًا إلى قناعة بأنه قد حان الوقت لإحداث تغيير على خارطة المسرح السياسي في الصومال؛ فالمقاومة الإسلامية التي تمَّ دحرها مند عامين عادت لتسيطر على أكثر من ثلثي البلاد، وهي رغم عنفها واستمراريتها فشلت في زحزحة القوات الإثيوبية من مراكزها داخل العاصمة وبعض المدن الأخرى، ووصل الشعب الصومالي إلى حالة من الشقاء لم يعد في الإمكان احتمالها. ولذلك لم يعد هناك مناص من الجلوس وجهًا لوجه، والبحث عن صيغة مُرضية، لإخراج الأحباش من البلاد وعزل الكولونيل عبد الله يوسف وتسليم السلطة إلى الرجل الذي أصبح ولأول مرة في التاريخ الصومالي المعاصر موضعَ حب واحترام كافة أطياف الشعب الصومالي وطبقاته، وكان ذلك بالنسبة للجماهير الصومالية النصر الخالد الأبدي، والضوء الأول لانفراج الأزمة التي عاشوها في الفترة الأخيرة. الشباب منذ البداية كانت حركة الشباب المجاهدين هي السبّاقة في معارضة التوجهات السلمية لدى قادة المحاكم الإسلامية في المنفى الإريتري، وكانت تصريحات زعمائهم تتوالى محذرةً من مكيدة تدبر لشق صفوف الإسلاميين في الصومال، ورفضت الاعتراف ومنذ البداية بشرعية تحالف إعادة تحرير الصومال الذي أنشئ في أسمرة كممثل سياسي للعمل الإسلامي المسلح، واعترضوا على تحالف الإسلاميين مع الجهات الأخرى كأعضاء ما عرف بالبرلمان الحر، وهم نواب البرلمان الصومالي الفيدارالي الذين انشقوا عن الحكومة الصومالية بعد دخول القوات الحبشية، ورفعوا شعار "لا سيادة تحت الوجود الإثيوبي في الصومال"، وكان في مقدمة هؤلاء رئيس البرلمان "شريف حسن شيخ آدم". وكان التحالف مكونًا من هاتين الفرقتين، بالإضافة إلى هيئات المجتمع المدني المدعومة من المنظمات العالمية، وجمعية المغتربين الصوماليين، التي تمثل النخبة المعروفة محليًا ودوليًا من الشخصيات الصومالية المقيمة في المهجر، وتحديدًا غرب أوروبا وشمال أمريكا. وجرى تقاسم المناصب الحساسة في التحالف بين هذه المجموعات الأربع بطريقة روعي فيها ألا يستبد أحدها بالسلطة. لماذا رفض الشباب الاعتراف بالتحالف؟ كان (الشباب) قد برزوا كتنظيم مستقل في الربع الثالث من عام 2007، عندما بدأت ملامح التحالف المشكَّل في أسمرة تتضح للعيان، وأعلنوا اعتراضهم على هذا التشكيل، مبررين هذا الاعتراض بالنقاط التالية :- 1 وجود قادة التحالف في الخارج، مما يسلبهم الحق في ولاية الأمر. 2 تشكيل التحالف في إريتريا، وهي دولة صليبية على حد تعبيرهم. 3 تحالف الإسلاميين مع الجهات الأخرى التي ذكرناها، والتي لا تمت إلى العمل الإسلامي بصلة، حسب رؤية الشباب. 4 رضا المجتمع الدولي عن التحالف ومشاركة وفود من كافة أنحاء العالم بما فيها إسرائيل أثناء تشكيل التحالف، مما يعني أن أعداء الإسلام لهم يد في هذا التنظيم الجديد. ولذلك فقد أعلن الشباب عن أنهم تنظيم مستقل، هدفه إخراج القوات الإثيوبية من البلاد، وإسقاط حكومة عبد الله يوسف المرتدَّة، بحسب وصفهم، والتطبيق الكامل للشريعة الإسلامية. ورفعوا شعار: (لا للمصالحة... لا للمهادنة... لا للتنازلات)، وللإنصاف فإن حركة الشباب التزمت بمنهجها الذي اختطَّتْه منذ البداية، وحتى لحظة كتابة هذا المقال؛ حيث اتسمت بالانضباط الداخلي، ووحدة النسيج، مما جعلها نمطًا فريدًا من التنظيمات المسلحة في الصومال لم يعتدْه الصوماليون من قبل. تعاون مشوب بالحذر ومع اعتراف قادة المحاكم الإسلامية في الداخل بشرعية التحالف المشكَّل في أسمرة، إلا أنهم تجنبوا الوقوع في مصادمات مع حركة الشباب، ومن جانبهم فإن الشباب لم يحاولوا الاحتكاك بالمحاكم الإسلامية، كما أن قادة التحالف لم يعلقوا على موقف الشباب، وبدا أن الجميع قد قرر أن الإثيوبيين والقوات الحكومية هم الهدف الأول، وعملت كل جماعة على خوض المعارك وشن الهجمات وإصدار البيانات الإعلامية بصورة مستقلة عن الأخرى، إلا في حالات قليلة يتم فيها التعاون فيما بينها، وهو تعاون كان يشوبه الكثير من الحذر. الانشقاق يولد الانشقاق وبطبيعة الحال كان على شيخ شريف أحمد أن يثبت أنه الرجل القوي في الصومال، لكي يجبر المجتمع الدولي على سحب التأييد من الرئيس عبد الله يوسف، ولذلك فقد حاول أن يجمع حوله تكتلاً من قادة المحاكم في الداخل، وأن يحصل على تأييد الغالبية العظمى من أعضاء التحالف، ولكنه اصطدم بعقبة خطيرة، هي الشيخ "حسن طاهر أويس"، رئيس مجلس الشورى في المحاكم الإسلامية سابقًا، وأحد أبرز أعضاء تحالف التحرير، وهو عقيد سابق في الجيش الصومالي، وذو خلفية دينية، وينتمي إلى أحد الأسر العريقة في الصومال، وهو أيضًا مدرَج في القائمة الأمريكية للإرهاب، لصلاته بتنظيم "الاتحاد الإسلامي" الذي كان أول تنظيم صومالي مسلَّح يرفع شعار الجهاد في التسعينات، وحكم لفترة أجزاءً من جنوب وشمال شرق البلاد، إلا أنه اصطدم بالعقلية القبلية في الصومال، كما واجه حربًا دعائية من قِبل الطرق الصوفية، مما أدى إلى انحساره عن المسرح السياسي والعسكري، رغم بقاء نفوذه في مجاليْ التعليم والاقتصاد. ولعب الشيخ أويس دورًا بارزًا في الحيلولة دون اصطفاف جميع قادة المحاكم في الداخل وراء الشيخ شريف، وأوعز إلى بعض مؤيديه بإنشاء قيادة عسكرية خاصة بالمعارضين لتواجه الشيخ شريف، مما أدى إلى انشقاق مقاتلي المحاكم في الداخل إلى مؤيدين للشيخ شريف أطلق عليهم (جناح جيبوتي)، ومناصرين للشيخ أويس أُطلق (جناح أسمرة ). وأعلن الشيخ أويس نفسه رئيسًا للتحالف من أجل إعادة التحرير، ولعبت القبليَّة دورها في إذكاء الخلاف، وظهرت جماعات أخرى كمعسكر راس كيامبوني ومعسكر الفاروق والجبهة الإسلامية والتي تحالفت في نهاية المطاف مع جناح أسمرة، ليشكِّلوا ما يعرف اليوم ب "الحزب الإسلامي". وأرسل طاهر أويس الشيخ عمر إيمان كأحد مؤيديه ليرأس التنظيم الجديد المعارض للشيخ شريف، في حين ظل هو في أسمرة كرئيس للتحالف لمنح الصبغة الدولية للتحالف، وربما أيضًا لإرضاء إريتريا التي رأت في مساعي الشيخ شريف تقرُّبًا من غريمتها الإثيوبية، وطبعًا نجت حركة شباب المجاهدين من هذه الفوضى والبلبلة والانقسام الذي اعترى المحاكم الإسلامية؛ بسبب موقفها الرافض منذ البداية للطبخة التي تم طهيها في المطبخ الإريتري، ثم قُدمت على مائدة المفاوضات الجيبوتية. اللحظات الأخيرة وبحلول أكتوبر من عام 2008 وباستثناء شمال شرق وشمال غرب - حيث يوجد بالأول إقليم بونتلاند الذي يتمتع بشبه حكم ذاتي، وبالثاني جمهورية أرض الصومال الانفصالية- فإن جميع الأقاليم الصومالية كانت قد وقعت في قبضة الجماعات الإسلامية المختلفة فيما بينها، ولم يعد من وجود للحكومة الفيدرالية والقوات الأجنبية سوى في مدينة بيدواة، جنوب غربي الصومال، حيث المقر الرسمي للبرلمان، وأجزاء من العاصمة مقديشو، حيث تُرابط القوات الإثيوبية وقوات حفظ السلام الإفريقية المكونة من أوغندا وبروندي اللذين تسيطران على المطار وميناء مقديشو والقصر الرئاسي، وبدا من الواضح أن الجميع قد دخل في مرحلة التأهب للحظات الأخيرة للفوز بأكبر قطعة من الكعكة، وهي هنا المراكز التي ستُخليها القوات الأجنبية في حالة إتمام الاتفاق الجاري في جيبوتي. المصدر: الاسلام اليوم