اتفقتُ مع واحدة من القنوات الفضائية على تقديم ثلاثين حلقة تليفزيونية في شهر رمضان الكريم القادم إن شاء الله وكنت قد قدمت في ذات القناة ثلاثين حلقة من قبل تحت عنوان "صناعة الديكتاتور" من أجل ذلك تخيرنا أن تكون موضوعات الحلقات الجديدة حول "نهاية الدكتاتور" واخترنا لها عنوانًا فحواه "الفرعون يموت دائمًا" وسر اختيارنا لهذا العنوان هو أنك لن تجد فرعونًا أو طاغيةً يعتقد أن له نهاية فالإحساس بالأبدية هو "الفيروس" الذي يصيب الطغاة دائمًا فيبدأ أولًا في نفوسهم كفيروس ضعيف لا يستطيع الوقوف على قدمه وهو في هذه المرحلة يجعل الدكتاتور ينفق من وقته وتفكيره القدر الكبير في كيفية البحث عن الخلود ثم يتطور "الفيروس" في نفس الدكتاتور فيقف "الفيروس" على قدمه ثم يشتد عوده بفعل البطانة السوء وطبقة المهللين فيتمكن من الدكتاتور ويسرب إليه الشعور بالخلود ومن ثم يتصور الدكتاتور أنه باقٍ إلى الأبد من أجل ذلك اهتم القرآن بدراسة "فرعون مصر" من الناحية النفسية والإنسانية واهتم بتقديمها إلى الأجيال جيلًا بعد جيل قرآنًا يتلى وآيات يتم التعبد بها فتجد الناس يتلون صفات الفرعون في الصلاة خمس مرات في كل يوم وقد كان سر هذا الإيضاح القرآني يكمن في تنبيه الناس حتى لا يقعوا في آفة الفرعنة التي تورد الناس في موارد التهلكة والفرعون يموت دائمًا بل إنه أحيانًا يموت في جنته التي بناها لنفسه أو يغرق في البحر الذي كان يفتخر به وفى البلد الذي كان يتمسك بملكيته وفي أحيان أخرى يموت الفرعون بعيدًا عن هذا وذاك ولكنه في جميع الحالات يأتي الموت للفرعون فجأة فقد حكى لنا القرآن عن طاغية صغير وكان ذلك في سورة الكهف وقد دخل إلى جنته وإلى ملكه فكان يردد دائمًا عبارة تدل على الثقة في الأبدية وكان يقول وهو ينظر إلى جنته مثلًا "ما أظن أن تبيد هذه أبدا" ولأنه كان يتصور في نفسه الصلاح والتقوى فقد كان يؤكد للناس ولنفسه دائمًا ما فحواه "ولئن رددت إلى ربي لأجدنّ خيرًا منها منقلبا" ومع ذلك فقد مات الرجل وهو ينظر إلى جنته وهي تزول عنه، ومن هنا فإن الله يكتب على الفراعين كل الفراعين أن ينظروا إلى ثمرة اعتقاداتهم الباطلة في الدنيا والآخرة فقد ذهب فرعون ليقتل المستضعفين من الناس وهم يفرون أمامه فتكون النتيجة هلاك الفرعون أمام المستضعفين وهم ينظرون إليه حتى تتم العبرة والعظة. ولا يعرف التاريخ أن طاغية من الطغاة لم يشاهد نتيجة طغيانه وهو حي أو أن يكون طغيانه قد أهلكه فيموت وهو مفتوح العينين يشهد مصرعه بنفسه من أجل ذلك فإن الفرعون يموت دائمًا في نهاية قصته ولكنه يفتقد بين مشيعيه هؤلاء الذين صنعوه من أصحاب الهوى والنفاق ومن الطامعين في الوصول على رقبته وأكتافه إلى مناصب الحياة الدنيا ومن هنا تكون بداية معاناة الفرعون إذ أنه يفيق في اللحظة التي وصلت فيها سكرته إلى الذروة ويموت حين يصل شعوره بملكية البلاد إلى القمة وغروره بنفسه إلى حد اكتمال الفساد داخله، وقد أوضح لنا القرآن أيضًا صفات الفرعون فهو عادة لا يحب الرأي الآخر ويضيق بالنقد ويميل إلى سجن معارضيه وإلى تعذيبهم، من أجل ذلك كانت رسالة موسى إلى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل ولا يعذبهم فقد كان يطيب لفرعون مصر أن يؤذى بني إسرائيل وأن يحبس المستضعفين من أصحاب الرأي ويطرب لمديح الآخرين له ودفاعهم عنه بالباطل، ومن سمات الفرعون أيضًا أنه لا يشرك الآخر في حكمه حتى لا يستقوي الآخر بهذا الحكم فيقترب أو يضارع الفرعون في قوته، ومن سمات الفرعون أيضًا أنه يحيط نفسه بأهل الثقة ويبعد عنه أهل الكفاءة ذلك أن أهل الثقة يمنحونه الشعور بالأمان بينما يسحب أهل الكفاءة من رصيد الإعجاب الجماهيري الذي يتمنى فرعون ألا يكون لأحد غيره، ومن صفات الفرعون أيضًا أنه يكذب كثيرًا ولا يعترف بالخطأ أبدًا فهو يملك البلاد والعباد ويملك الحقيقة أيضًا، وفرعون مصر كان يردد كما يقول القرآن عبارة "أليس لي ملك مصر" فهذه العبارة كانت تعبر عن حقيقة اعتقاد في داخل النفس الإنسانية عندما يتملك منها الشعور بالطغيان، ومن سمات الفرعون أيضًا أنه لا يحب القضاء ولا العدالة لأن القضاء معناه أن يجرى على الفرعون أمر ليس من صنعه ولا من قراره والفرعون لا يحب أن يجبر على فعل أو حتى على ترك فعل، ومن سمات الفرعون أيضًا أنه يفضل مصلحته على مصلحة الوطن ويفضل أمنه على أمن العباد، ومن سمات الفرعون أيضًا أنه يحسن ارتداء القشرة الخارجية فينتقي الألفاظ أو يحاول أن يفعل ذلك ويتوشح بالوقار أو بالتدين أو يحاول أن يفعل ذلك ويظهر أحيانًا تواضعًا مصنوعًا أو على الأقل هو يحاول أن يفعل ذلك أو أن يربط بين مصالحه ومصالح الناس ولو من حيث الشكل، ألم يقل فرعون مصر للسحرة وهو يحثهم على قتال موسى ومهاجمته في خطاب يؤكد لهم فيه أن موسى وأخاه هارون يريدان أن يخرجا المصريين من عزهم ومجدهم وأرضهم وأنهما يريدان أن يذهبا بطريقة المصريين المثلى بينما كان فرعون في الحقيقة هو الذي يضمر الشر لمصر ويحتكر مواردها فيوزعها على أهله وأقربائه ويرتب لنفسه مقعدًا لا يتركه أبدًا؟ هذه السمات هي بعض من كل وقليل من كثير وهي سمات لن تعدمها في واحد من الفراعين لكن الجميل في الأمر أن القرآن الكريم قد أرسل إلينا ما تطمئن به نفوسنا، فقد كان الفرعون في القصص القرآني يموت دائمًا والطاغية لا يبقى أبدًا والذين أذلهم الفرعون أو حاول أن يفعل بهم ذلك يشاهدونه دائمًا وهو ذليل أمامهم وقد حدث ذلك في قصة أصحاب الأخدود وفي قصة فرعون مصر وفي قصة كل طاغية وكل نمرود مرت عليه الآيات في القران فشفت صدورنا بنهايتها. وتبقى كلمة فإن أسوأ أنواع الفراعين هو الذي يظهر مسوح الورع والتقوى ليخفي من ورائها شهوة التحكم فإن الذي يستتر بالدين من شأن فعلته أن يفتن الناس عن الدين نفسه فكلما رأوا منه ظلمًا قد لا يكفرون بفعله فقط وإنما قد يكفرون بستاره الذي ينسبه إلى نفسه وهو الدين، من أجل ذلك نحن نلتمس من الفراعين في الأرض كلهم أن يستتروا عن الناس بأي ستار وأن يخفوا حقيقتهم بأي طريقة إلا أن يكون هذا الستار هو الدين.