رغم أن أقلَّ من شهر يفصلنا عن الانتخابات البرلمانية العراقية، المقررة في السابع من مارس المقبل، إلا أن حالة من الضبابية ما زالت تسيطر على الأجواء المحيطة بالعملية السياسية برمتها، فبعدما تمت إجازة قانون الانتخابات عقب مخاضٍ عسير في أروقة البرلمان وهيئة الرئاسة، جاءت قرارات هيئة "العدالة والمساءلة" باستبعاد المئات من المرشحين بدعوى شمولِهم بقانون "اجتثاث البعث" لتعيد أجواء التوتر مرةً أخرى، خاصة أن الأشخاص والكيانات ذات الثقل، ممن شملتهم قوائم المستبعدين، ينتمي جلها إلى الطرف السني، مما عزَّز التوجسات لدى البعض بوجود تيارات طائفية نافذة لديها توجهات بإقصاء العرب السنة عن العملية السياسية. والإقصاء هنا لا يقصد به الإبعاد التام، حيث أن نظام المحاصصة الطائفية الذي أرسته سلطات الاحتلال الأمريكي يمنع حدوث ذلك، لكنه قد يعني استخدام عمليات الاستبعاد كوسيلة لتوجيه رسائل حاسمة إلى القوى والأطراف السنية مفادها: أنه لا مجال أمامها للعب دورٍ سياسي إلا برضا تلك التيارات النافذة أو تحت عباءتها، ومن يحاول لعب دور مستقل أو فعال، فإن مصيرَه الإقصاء والتشويه، وبذلك تقتصر المشاركة السياسية للسنة العرب على بعض الشخصيات الكارتونية، التي لا تخرج عن الدور المرسوم لها. جذور الخلاف ويعزِّز من ذلك الوضع أن فكرتي "القانون" و"المؤسسات" تبدوان غائبتين تمامًا عن المشهد العراقي، فمثلًا هيئة "العدالة والمساءلة"، والتي خلَّفت سابقتها المسماة "هيئة اجتثاث البعث" في مهمة منع تسلل البعثيين إلى العملية السياسية ومؤسسات الدولة، يشكك الكثيرون في شرعية وجودها، حيث ما زال مشروع تشكيلها متعثرًا في أروقة البرلمان بسبب الخلافات بين الكتل السياسية، والتشكيلة الحالية تؤدي دورها بحكم "الأمر الواقع"، وهو ما يرفض البعض الاعتراف بقانونيته. ومن اللافت هنا أن البرلمان حاول تجاوز الخلاف بشأن تشكيل اللجنة عبر إقرار تشكيل هيئة تمييزية قضائية، مكونة من سبعة قضاة يختارهم البرلمان، تقوم بمهمة نقض قرارات الاستبعاد، لكن هذه الهيئة عندما حاولت القيام بمهامها وقررت السماح للمرشحين المستبعدين بخَوْض الانتخابات، على أن يجري فحص ملفاتهم عقب الانتخابات، ومن تثبت إدانته يتم استبعاده من البرلمان في حال فوْزِه، انفجر بركان من الاحتجاجات من قِبل القوى الشيعية الموالية لإيران، وجرت عملية واسعة لتجييش الشارع كأداة ضغط، وبالفعل سرعان ما عدلت الهيئة عن قرارها، معلنةً أنها سوف تفحص ملفات المستبعدين خلال يومين. ومن "السخرية المبكية" في هذا السياق أن من طالبوا المستبعدين بالرضوخ إلى القرار، واحترام الدستور والقانون الذي حدّد دور هيئة "العدالة والمساءلة" وطرق الطعن في قراراتها عبر الهيئة التمييزية، هم أنفسهم الذين عادوا واتهموا تلك الهيئة بتنفيذ أجندة خارجية و"مؤامرات إقليمية"، مهددين بسحب الثقة منها. ولا ننسى هنا أن الجنرال ديفيد بترايوس قائد القيادة المركزية الوسطى الأمريكية، المسئولة عن إدارة الحرب في العراق، والقائد السابق للقوات الأمريكية هناك، اتّهم "العدالة والمساءلة" ومديرها التنفيذي "علي اللامي" بأنها أداة في يد فيلق القدسالإيراني، متسائلًا عن الطريقة التي تسلَّل بها أعضاء "هيئة اجتثاث البعث" القديمة إلى "العدالة والمساءلة". وللتذكرة فإن اللامي، الذي ينتمي لحزب المؤتمر الوطني بزعامة أحمد الجلبي، جرى اعتقاله لدى الأمريكيين في أغسطس 2008 بتهمة الانتماء للمجاميع التابعة لإيران، وقبل ذلك بسنتين قضى عامًا في السجن على خلفية اتهامِهِ بالمشاركة في تفجير أحد مراكز الشرطة في مدينة الصدر، أما المضحكُ في الأمر فهو أن اللامي يخوض الانتخابات المقبلة على قوائم الائتلاف العراقي الموحَّد، أي أنه يلعب دور الخصم والحكم في نفس الوقت. أجواء مشبوهة وفي ظلّ هذه الأجواء المشبوهة لا يعدُّ مستغربًا أن تضم قوائم المستبعدين شخصية مثل صالح المطلك، الذي شارك في لجنة صياغة الدستور، ورافع العيساوي نائب رئيس الوزراء، وعبد القادر العبيدي وزير الدفاع، ووزير الكهرباء كريم وحيد، ووزير السياحة قحطان الجبوري، ومؤخرًا قدمت اللجنة القانونية في البرلمان طلبًا إلى الهيئة لاستبعاد نائب الرئيس طارق الهاشمي، الأمر الذي يؤشر إلى عملية منظمة تستهدف استبعاد كافة الشخصيات السنية ذات الثِّقَل من العملية السياسية، مما يضرب في الصميم أي حديث عن عملية مصالحة وطنية، تشمل الجميع ولا تستبعد أحدًا. وإذا كانت التحالفات والتربيطات الانتخابية قد شهدت انقسام الأحزاب والكيانات الشيعية المرتبطة بإيران، إلى قائمتين رئيسيتين: الأولى "ائتلاف دولة القانون" بقيادة رئيس الوزراء نوري المالكي والثانية هي "الائتلاف العراقي الموحد" بزعامة عمار الحكيم ومقتدى الصدر، فإنه يلاحظ أن كلا القائمتين اتفقتا على تصعيد ملف المستبعدين إلى أقصى درجة، حتى أن المتابع لتصريحات بعض الساسة الشيعة يشعر كما لو أن البعثيين على وشك العودة مجددًا إلى السلطة، مع أن معظم الأسماء المستبعدة هي لشخصيات ساهمت في العملية السياسية التي أطلقها الاحتلال الأمريكي منذ بدايتها، ولا يمكن الادِّعَاء بأنه فجأةً تم اكتشاف ماضيهم البعثي. محاولة يائسة ولذلك يذهب بعض المحللين إلى أن الدفع بحملة "اجتثاث البعث" إلى الواجهة في هذا التوقيت لا يعدو أن يكون محاولةً يائسة من حلفاء إيران في العراق لاستعادة شعبيتهم المتدهورة لدى الشارع الشيعي، حيث يبدو أن المرجعيات الدينية قد نفضت يدها -حتى الآن- من دعم تلك الكيانات، بينما تعرضت صورة رئيس الوزراء نوري المالكي لضربة عنيفة بسبب سلسلة التفجيرات الأخيرة، ذلك أن الاستقرار الأمني شكَّل الورقة الوحيدة التي على أساسها جازف المالكي بالخروج من قائمة "الائتلاف العراقي" خلال الانتخابات المحلية الأخيرة، وقد نجح رهانُه وحصلتْ قائمته على أعلى النسب في محافظات الجنوب ذات الغالبية الشيعية. أما بالنسبة لقائمة الائتلاف الموحد، فهي لم تستوعب بعد خسارتها المفاجئة والقاسية في الانتخابات المحلية، وفاقم من الأمر وفاة عبد العزيز الحكيم، الرجل الأقوى في الائتلاف، ولا يبدو أن نجله عمار يتمتع بنفس حضور ونفوذ والِدِه، كذلك فإن التيار الصدري، الذي شكل القوة الضاربة للائتلاف في حصد أصوات البسطاء والمهمشين بسبب خطابه الشعبي ولهجته المعارضة للأمريكيين، فقد الكثيرَ من بريقِهِ، حيث لم تَعُدْ ورقة المقاومة التي طالما لوح بها التيار مطروحةً، كما أن الاختفاء الطويل لزعيمه مقتدى الصدر أدى لانفضاض الأتباع من حوله، حيث ملَّ الكثيرون من غموضِه ومواقفه المتناقضة. حظوظ علاوي وفي مقابل ذلك بدأت حظوظ ائتلاف "العراقية"، الذي يتزعمه إياد علاوي، في الارتفاع بشدة في الآونة الأخيرة، فهو الطرف الوحيد الذي لم يأخذ فرصته في الحكم، كما أن الائتلاف يعدّ المعبر الأقوى عن فكرة المصالحة، من خلال انخراط شخصيات سنية فاعلة في صفوفِهِ، وليس فقط مجرد واجهات عشائرية أو شخصيات كارتونية كما هو الحال في تحالفي "دولة القانون" و"الائتلاف العراقي الموحد"، يضاف إلى ذلك أن علاوي يحتفظ في علاقته مع إيران بمساحة فاصلة تبدو مقبولةً، سواء من قِبل الأمريكيين أو دول الجوار العربي. وأخيرًا يعد ائتلاف علاوي هو الخيار المفضل للذين يراودهم الحنين إلى أيام البعث والدولة القوية، رغم كل التحفظات وعلامات الاستفهام التي يمكن وضعها على شخصية علاوي وماضيه المريب. وإذا كان انتقاد قرارات الاستبعاد أمرًا منطقيًّا بالنسبة للأمريكيين، الذين يريدون تسريع عملية المصالحة، وضمّ أكبر شريحة ممكنة من العراقيين إلى العملية السياسية، بهدف تمهيد الأوضاع للانسحاب المرتقب من العراق، فإن غير المنطقي هو الصمتُ العربي تجاه التطورات الجارية في العراق، وباستثناء تصريحات خجولة من الجامعة العربية تشدّد على ضرورة مشاركة جميع الأطراف في الانتخابات، لم تكن هناك مواقف تذكر لأي دولة عربية، رغم أن بعض الأطراف العراقية المحسوبة على إيران عَزَت قرار الهيئة التمييزية بإعادة المستبعدين إلى "تدخلات إقليمية"، لكن لا يوجد دليل أو مؤشر ملموس على ذلك. انشقاقات وتوازنات أما بالنسبة لإيران فيبدو أن الخلافات الداخلية المحتدمة ودخول صراعها مع الغرب بسبب الملف النووي إلى مراحل حاسمة، شغلتها عن لعب دور مباشر وعلني في ملف الانتخابات العراقية، حتى على صعيد ملف "اجتثاث البعث" الذي يثير حساسياتٍ كثيرةً لدى طهران، وعِوَضًا عن ذلك يدير حلفاؤها ملف الانتخابات اعتمادًا على خبراتهم في الحكم خلال السنوات الست الماضية. وعلى صعيد الداخل العراقي، فمن الملاحظ أن الانشقاقات في صفوف السنة العرب آخذةٌ في الازدياد، فالحزب الإسلامي فقد الكثير من قوتِهِ بسبب مواقفه المتذبذبة، ثم جاء خروج طارق الهاشمي من الحزب ليزيد الأمور سوءًا، والحال هو ذاته في جبهة التوافق، التي شهدت سلسة انشقاقات متتالية، وكذا الأمر بالنسبة لمجالس الصحوات، حتى يمكن القول بأن الساسة السنة اكتَفَوْا بلعب دور "السنِّيد" و"الرديف" في مختلف القوائم الانتخابية التي كان واضحًا الهيمنة الشيعية على مفاصلها، بينما ينشغل الأكراد بتعميق استقلالِهِم غير المعلن، مع محاولة لإمساك العصا من المنتصف في الملفات الشائكة خارج كردستان العراق، فمثلا انتقد الرئيس العراقي جلال الطالباني قرارات الاستبعاد بشكْلِها الموسع، لكنه عاد واتخذ نفس الموقف بحق قرار عودة جميع المستبعدين، إذ أنه من مصلحة الأكراد أن تبقى التوازناتُ بين السنة العرب والشيعة على حالها، ما بين شد وجذب، وعدم السماح لأي طرف بحسم الأمر لصالحه، لأنه في تلك الحالة سوف يكون أكثر قدرةً على مواجهة الطموحات الكردية الانفصالية. المصدر: الإسلام اليوم