يُحكى أن ثلاثةً من العُميان أُدخلوا في غرفة بها فيل.. وطُلِبَ منهم أن يتعرفوا عليه ليصفوه؛ فأخذوا يتحسُّسونه بأيديهم، ثم خرجوا يصفونه.. قال الأول: الفيل هو أربعة قوائم.. وقال الثاني: الفيل يشبه الثعبان.. أما الثالث فقال: بل يشبه المقشّة.. ومن هنا دب الخلاف وبدأ الشجار.. وتمسَّك كل واحد برأيه وراحوا يتجادلون ويتِّهم بعضهم بعضًا بالكذب.. ويفسّر لنا الرجل الحكيم الأمر قائلًا: "لعلكم لاحظتم سر الخطأ الذى وقعوا فيه؛ فقد تحسس كل واحد منهم جزءًا من الفيل ووصفه من واقع خبراته السابقة: فالأول لم يعرف من الفيل إلا أرجله.. والثانى أمسك بخرطومه، وأمسك الثالث بذيله.. ولم يكذب أحد منهم في وصفه للجزء من الفيل الذي وقع في خبرته.. ولكنه أخطأ في إنكار ما تحسّسه الآخران وعرفاه.." تساق هذه الحكاية للتدليل على أن النظر إلى الحقيقة الواحدة من زوايا مختلفة يؤدى إلى رؤى متعدِّدة تبعًا لاختلاف خبراتنا السابقة التي تؤثر في أحكامنا ووجهات نظرنا للأمور؛ ومن ثم فلا مبرر للجدل والتخاصم.. فقد تكون الرؤى متكاملة يصحح بعضها بعضًا.. ومن الأولى الاستماع إلى خبرات الآخرين وأخذها في الاعتبار وعدم التعصب للرأي الشخصيّ.. وهذا كلام جميل ومفهوم.. ولكنك لو تأملت في الأمر مليَّا لتبيَّن لك أن الحكاية نفسها تنطوي على تسطيح شديد للواقع.. ومبالغة في افتراض حسن النوايا.. والاستناد إلى مجموعة من الفروض الخيالية التي لا تحدث في الواقع العملي المشهود.. وإليك هذه الملاحظات: أولًا- ما الذي جعل كل واحد منهم يتوقف عند حدود العضو الذي تحسّسه ولم يستمر في اللمس فيرتفع أعلى وأسفل ويلفّ يمينًا ويسارًا بيده على جسم متصلِ الأجزاء لا انفصال فيه..؟ وبذلك يكتشف أجزاءًا أخرى من الواقع .. وقد يصل بذلك إلى أحكام أقرب إلى الحقيقة مما فعل؛ وإذن فقد كان هناك جُهدٌ في وُسع كل منهم القيام به ولكنه ابتسر وقصّر.. ثانيًا- تفترض الحكاية أن الثلاثة الذين جرى عليهم الاختبار عميان.. ولكنها لم تذكر شيئًا عن حواسهم الأخرى فهل كانوا صُمًّا لا يسمعون.. محرومين من حاسة الشَّم أيضًا.. وحتى حاسة اللمس نفسها لا تُستخدم فقط فى تحديد الشكل الخارجي للأشياء وإنما تتحسس حرارة الأجسام.. ومِنْ تآزُرِ عمل هذه الحواس مجتمعةً يستطيع الإنسان أن يصل إلى تصوّرات أدق وأكثر تفصيلًا.. وبهذا كان من الممكن أن يعرفو أن ما يتحسّسونه هو جسم حيّ يتنفّس بصوت مسموع و تشِعُّ منه حرارة.. وإذا لم يكن الفيل أو الجمل قد وقع في خبراتهم السابقة فسوف يحكمون أن ما تحسّسوه هو جسم حيوان ضخم وليس مجرد مقشَّة أوثعبان أو أربعة قوائم.. ثالثًا- التجربة مقطوعة الصلة ببيئتها الثقافية فلم نعرف فى أي بلد وقعت.. ولا الطبقة إلى اختيرت منها العيّنة..؟ ولا الجنس ولا السن.. ولا مستوى التعليم ولا مستوى الأمانة العلمية والأخلاقية.. كل هذه الشروط والمُحَدِّدات تُركت بدون تحديد.. ومن ثم وصلنا إلى النتيجة التي صمّمها الباحث المجرِّب مسبَّقًا.. لإقناعنا بحكمته... تقول: وما علاقة البيئة الثقافية بإدراك الناس للحقيقة..؟ أقول لك العلاقة أقوى بكثير مما تظن.. فهي المرجعية الأساس في تفسير الخبرة الجديدة؛ وأبسط مثال على هذا: أن الطفل الريفي سوف يتعرف على سنبلة القمح من اللمس بينما طالب الجامعة في القاهرة سيقول لك إنها أشواك أو إبر لأنها لم تقع في خبرته العملية على الإطلاق.. حتى لو كانت موصوفة له في جزء من دراسته .. حفظها لزوم الامتحان.. ثم أسقطها من ذاكرته، ليملأ فراغه العقليّ بأحداث المسلسلات المتلفزة التي استمع إليها وعاشها بوجدانه.. وهنا نصل إلى النقطة الهامة في الموضوع فسوف يسأل القارئ الذكيّ ومن يصنع هذه البيئة الثقافية..؟ وأقول: من المفروض أنها صناعة تبدأ من الأسرة وتمتد إلى المدرسة.. فالمجتمع بمؤسساته: التعليمية والدينية وأنديته وإعلامه المكتوب والمسموع والمشاهد.. وفى مجتمعنا المصري للأسف الشديد كان هناك دائمًا على مدى ستين عامًا من الزمن محاولة متنامية ممنهجة لتقليص دور الأسرة في التربية والتثقيف.. ثم امتدّت هذه المحاولة إلى تقليص دور المسجد.. ثم المدرسة والمعاهد التعليمية.. لتتركز وظيفة التثقيف أو[التجهيل بتعبير أدقّ] في يد السلطة الحاكمة، لتصنع رأيًا عامًّا يصفِّق لسياستها القمعية.. وفي الثلاثين عامًا التي حكم فيها مبارك إنهارت تمامًا مؤسسات المجتمع الثقافية والتعليمية.. وأصبحت المساجد تابعة لوزارة الأوقاف فقط للتمويل وإدارة المباني.. بينما هيمن جهاز أمن الدولة على اختيار وتعيين أئمة المساجد: حتى خطبة الجمعة هو الذي كان يختار موضوعاتها.. وله عيون مبثوثة لرصد كل نشاط في المسجد.. لضمان السيطرة الكاملة عليه.. وهكذا ورثنا نظام مبارك الفاسد في الثقافة والإعلام.... وكان الأمل في إصلاح هذه المؤسسات بعد الثورة.. ولكن اصطدمت محاولة الإصلاح بثلاثة عوامل: (1) جيش من العاملين في الإعلام والثقافة ربّاَهم النظام السابق على عينيه واختارهم لمناهضة عقيدة الأمة وفكرها وهويَّتها وتطويعها للعبودية.. (2) مجموعة من الصحف ومحطات التلفزة المستقلة أكثرها تابع لرجال المال والأعمال الذين توطدت مصالحهم وعلاقاتهم مع نظام مبارك.. (3) تأكّد دور أجهزة الإعلام التابعة لأصحاب المال المنهوب وزادت في أعدادها وخطرها بعد الثورة وصُبَّت فيها مليارات الدولارات من مصادر داخلية وخارجية.. بهدف واضح ومحدّد وهو إعاقة الثورة وإسقاط السلطة التي انتخبها الشعب.. وتحويل الشعب إلى قطعان من العبيد تمهيدًا لإعادته إلى حظيرة الاستبداد والتبعية.. ولتحقيق هذ الغرض دخل في مهنة الإعلام عناصر إضافية من شخصيات معدومة المواهب؛ معدومة الضمير.. تحترف صناعة الأكاذيب والسباب وادعاء البطولات الزائفة.. بهذه التركيبة الجديدة حدث انشقاق عميق بين الدولة الوليدة التي لم تتمكن بعدُ من استكمال مؤسساتها الديمقراطية لأسباب طال شرحها.. وبين النخبة المسيطرة على الصحافة والإعلام.. وفي مناخ الحرية التي جاءت مع الثورة ضعفت قبضة السلطة حتى على المؤسسات والمنظومات التابعة لها فبدت معاندة لا مساندة للسلطة الجديدة.. وزاد الوضع سوءًا تدخل جهات أجنبية ذات مال وسطوة ومصالح غير خافية.. تتناقض مع الثورة المصرية وأهدافها في تحقيق الأمن والإصلاح والاستقرار.. وهي العناصر الضرورية التي لا يمكن بدونها الانطلاق في عملية التنمية والإنتاج.. وعودة إلى تجربة الفيل والعميان، والحكمة التى أُرِيدَ لنا أن نستخلصها - فيما يتعلق باحترام الرأي الآخر- فإننى أقول إن ما يبثه الإعلام ويصرُّ عليه.. ويكرره ليل نهار ويحاول تثبيته في العقول، ليس وجهات نظر ولا رأي ورأي آخر، وإنما هو يبثّ سلسلة من الأكاذيب ويختلق وقائع ولقاءات وتصريحات وأخبار مزيفة؛ بحيث أصبح الفضاء الإعلامي فقاعة هائلة من الأكاذيب والتلفيقات ضاعت معها الحقائق.. ليست مشكلتنا الإعلامية إذن في الفيل والعميان واختلاف وجهات نظر من يتحسّسون الواقع ويصفونه بأمانة كما وقع في خبرتهم.. فليس هناك عميان بل أناس يتمتعون بحواس كاملة ويعملون بحماس.. وبعيون مفتوحة في خدمة من يدفع لهم بسخاء غير مسبوق في التاريخ المصري الحديث.. وليس هناك فيل ولا أي حقيقة أو واقع ملموس تختلف عليه الآراء.. فالواقع والحقيقة يجري طمسهما بحِرَفِيَّةٍ منقطعة النظير.. ويتم عليهما التعتيم الكامل في وسائل الإعلام.. فلا يصلان أبدًا إلى وعي الجماهير.. نعم هناك أصوات متناثرة هنا وهناك تنطق بالحقيقة وتجتهد في تبليغها للناس ولكنها أصوات غارقة في محيط متدفِّق من الأكاذيب.. يُضَيَّق عليها الخناق.. وتوضع في أركان معتمة من الصورة؛ فلا تلفت نظر القراء أوالمشاهدين، الذين تتجه أنظارهم حيث تُسلّط الأضواء؛ فتشغلهم الفرقعات الإعلامية: "نحن نكشف عن الفضائح والمفاجآت..! ندخل في الكواليس المخفيّة..! ونطّلع على الأسرار..! ونتسلل إلى القاعات المغلقة.. وننشر الحقائق المغيبة خلف الأبواب..!" إلى آخر هذه الفرقعات الإعلامية التى يُقصد بها إجهاد الذاكرة بالكم الهائل من الأخبار والبيانات والتصريحات المتضاربة.. والتعتيم على الحقائق.. وتغييب الوعي بين جماهير مضطربة حائرة.. لقد انحصرت وظيفة الإعلام الآن في تحويل الجماهير إلى قُطْعان من العبيد العميان في محاولة مستميتة: لتشويشهم، وتجريدهم من قدراتهم الفكرية، واختزالهم إلى مستوى الحواس، والاحتياجات البدائية للحيوان الغُفل، والكراهية العمياء، لما يحييهم وينفعهم على المدى البعيد، بحيث يسهل سوْقُهم بعيدًا عن الحقيقة، فلا يرون منها إلا أجزاء مشوّهة.. ولا يدركون من الفيل إلا مُبْتَسَرات لا تجمعها وحدةٌ عضوية.. فهو في روْعهم إما: أربعة أرجل قائمة في فراغ.. أو ثعبان.. أو مجرد مقشّة.. أما الفيل الحقيقي رغم ضخامته فلن يصل إلى إدراكهم أبدًا.. [email protected]