"لما سيطر العثمانيون على مصر، ظهرت في عسكر مصر سنّة جاهلية وبدعة شيطانية زرعت فيهم النفاق وأسست فيما بينهم الشقاق ، وهو أن السلطان سليم سأل هل بقي من الجراكسة أحد ، فدلوه على رجل طاعن في السن رزقه الله بولدين شهمين ، فذهب لزيارته ونظر إلى الولدين فرأى فيهما مخايل الفرسان الشجعان ، فطلبهم أمام الجميع وأمرهما بالتسابق والترامح فأظهرا من أنواع الفروسية الفنون ، ثم أمرهم في اليوم الثاني أن ينقسم العسكر قسمين ،قسم يكون رئيسهم ذو الفقارومعه أكثر فرسان العثمانيين وميزهم بلبس الأبيض من الثياب ، وقسم يكون رئيسهم قاسم ومعه أكثر الشجعان المصريين وميزهم بالأحمرفي الملبس والركاب وأمرهم أن يركبوا على هيئة المتحاربين فارتفعت الأصوات وقرب أن يقع القتل . فمنذ ذلك اليوم إفترق أمراء مصر وعساكرها فرقتين واقتسموا بهذه الملعبة حزبين واستمر كل منهم على محبة اللون الذي ظهر فيه وكره اللون الآخر ولم يزل الأمر يفشو ويتوارثه السادة والعبيد وكم خربت به بلاد وهدمت دور وأحرقت قصور." هذا نص ما ذكره المؤرخ الفذّ عبد الرحمن الجبرتي في الجزء الأول من كتابه( عجائب الآتار في التراجم والأخبار)أعظم الكتب عن تاريخ مصر في القرنين الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. وبدون ذكرٍ لتفصيلات ما أورده الجبرتي ، فعندما قرأت هذه الكلمات قفز إلى ذهني هذان اللونان الأبيض والأحمر وما يشهدان في بلدنا مصر من تنازع وتخاصم تعدّى مجاله الرياضي إلى مختلف الميادين والمجالات وكأن ما صوره الجبرتي ليس بعيدا عن ما نعايشه ونمارسه هذه الأيام . وسألت نفسي هل ما يعيشه البعض من تعصب بغيض لهذه الألوان والعداءات الظاهرة بين الكثير من أتباعهما والتي قد تتسبب في عنف قد يؤدي في النهاية إلى إزهاق الأرواح أو يُستغل من قبل آخرين إلى إحداث فوضى وعدم إستقرار تتعدى الأفراد إلى المدن والمؤسسات كما عاشتها مصر في أحداث بورسعيد ، هل هذا التعصب يكون إرثا قبيحا توارثناه منذ ما يقارب خمسة قرون ؟ فقلت ..ربما ..ولم لا... فما أكثر تلك السيئات التى ورثناها من غابرالأزمنة حتى أضحت جلية في تصرفاتنا وحياتنا كاحتقار الفقراء وإزدراء المرأة واستعباد العمال والرشوة والفساد وتأليه الحكام وغيرها... إن الرياضة بضوابطها أمر محبب إلى النفس ممارسةً ومتابعةً فهي تدريب ودعوة لتحدي النفس قبل تحدي الغير ودعوة إلى العطاء الجاد والبذل السخي والمنافسة الشريفة التى تحيطها قواعد وقوانين ،وهي ترويح وترفيه للنفس بعد جدية العمل وعناء الكسب . فأصبحت الرياضة بحق عنواناً للتقدم والتحضر والتواصل بين الأمم وسفيراً حسناً لكل المجتمعات. فجميلٌ أن نمارس الرياضة وجميل أن نتابعها وجميل أن نشجع ونتحمس ولكن القبيح أن تصبح الرياضة ديناً وهوية نوالي ونعادي من أجلها وتكون محور اهتماماتنا ومصدراً رئيساً لسعادتنا وشقائنا فعندها نكون المغبونين الذين باعوا سعادتهم وحياتهم من أجل دنيا غيرهم. وبدلاً من أن تكون مصدراً للمتعة والألفة والترفيه تكون مصدرا للقلق والتوتر والتعصب الأعمى الذي يشوّه أصحابه ويسلبهم الراحة والطمأنينة . فهذا يصاب بأزمة قلبية لهدف سُجِّل في فريقه وآخر يصاب بانهيار عصبي لخسارة لحقت ناديه المفضل ،وآخر لا يقوى على إكمال المتابعة أو مشاهدة ركلة حاسمة أثناء النزال وآخر طلق أو كاد أن يطلق زوجته لإرتداء لون غير ما يفضل ،وآخر يسوم أهله سوء العذاب إذا تعثر فريقه فلا ينطق إلا لعنا ولا يحادثهم إلا فحشاً أو ركلاً قد ملأت نفسه مرارةً فاقت مرارة النكبة أو حسرة النكسة .وآخرون يجلسون في أماكن عملهم أو غيرها يتنابزون ويتلامزون تعصباً للاعب أو نادٍ تنتهي غالبا بالشقاق أو العراك . إن مثل هذه السلوكيات لا شك عرض من أعراض التخلف نمت وطغت حتى أصبحت مرضاً مجتمعيا استثمره قوم وتاجر به آخرون حتى تضخم وأنتج ما يعرف بجماعات "الأولتراس" والتى تعني الزيادة والشدة في التشجيع والتعصب الأعمى والبغيض فأفسدت على الجميع الرياضة بهتافات تنزه عنها الأسماع أو لافتات تجافي الأدب والأخلاق وتزرع النزاع والشقاق . فأضحت هذه الجماعات من الشبان والأحداث بهذه الأفكار وذاك التطرف تهديدا حقيقيا لأمن المجتمع ومراكز قوى وجماعات ضغط وتمرد تتحرك في كل اتجاه بعيدا عن مجال الرياضة والتشجيع .وهذا أثر من آثار التعصب وفشل التربية وسوء التوجيه في البيت ومؤسسات المجتمع المعنية كالمدرسة والجامعة ووسائل الإعلام ودور العبادة ومؤسسات المجتمع المدني. وإجمالاً فالتعصب أمر قبيح لا مراء في ذلك ولكنه يزداد قبحا إذا تمت ممارسته أمام أطفال أبرياء أنظارهم معقودة وشاخصة إلى الكبار،فالحسن عندهم ما إستحسنّا والقبيح في نظرهم ما إستقبحنا، فهم على الفور يقلدون بل وأحياناً يزيدون ويتمادون لكي يقدرهم الكبار ويلفتوا إليهم الأنظار فنلقيهم بأفعالنا هذه في هوة سحيقة وحفرة عميقة كبّلت أرجلهم وغلّت أيديهم عن السير في طريق النجاح والإبداع والتميز فساروا في ركب المتعصبين والمشوهين بدلا من ركب القياديين والمؤثرين . [email protected] http://www.facebook.com/sayed.hammad.9 أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]