رغم أن صلة الرَحِم من أعظم أسباب تنزل الرحمات، والفوز بالجنات، وحصول البركة في الأعمار والأوقات، والزيادة في الأرزاق والخيرات، والذكر الطيب في الحياة وبعد الممات، إلا أن العديد من المسلمين يستسهلون ويستصغرون معصية قطيعة الأرحام، وربما تمر عليهم الأسابيع والشهور بل والسنوات الطوال وهم مصرون على تلك المعصية، غير عابئين بأن خصومتهم مع ذوي أرحامهم ستكون يوم القيامة خصومة بين يدي الله عز وجل! المتابع لبرامج الفتاوى وغيرها من البرامج الدينية والاجتماعية التي تعرضها القنوات الأرضية والفضائية يلاحظ كثرة الشكاوى من قطيعة الأرحام وأثرها البالغ على تشتت وتمزق كثير من العائلات وخلق حالة من العداء والكراهية في نفوس أفرادها والتي غالبًا ما ترثها الأجيال المتعاقبة! فكم من أم يبخل ابنها بمجرد السؤال عنها وبرها وتفقد أحوالها ومساعدتها ماديًا – إن كانت محتاجة- وكم من أختٍ قاطعها أخوها، بسبب الخلاف على الميراث!، وما أكثر الأعمام والأخوال القادرين ماديًا الذين تخلوا بقلوب ميتة وضمائر خَرِب عن رعاية أولاد إخوانهم وأخواتهم اليتامى!، بل ومنهم من أكل حقوقهم وظلمهم وتركهم وأمهاتهم يكابدون أزمات وضغوط الحياة ويعانون ويلات الفقر والحاجة!.. عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه". رواه البخاري وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِه قَالَتْ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ) رواه البخاري ومسلم. اقترنت قطيعة الأرحام بالإفساد في الأرض، ولذلك تعد من أسرع الطرق الموصلة للهلاك في الدنيا والمؤدية إلى اللعن والطرد من رحمة الله في الآخرة، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} محمد: 22-23 وقد توعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قاطعي الرحم فقال: (لا يدخل الجنة قاطع رحم) رواه الترمذي. يصل الله تعالى من وصل رحمه، ويجعل راحة نفسه في تلك الصلة، ولكن هذه الصلة تحتاج إلى جهد كبير لتظل صافية دون نزاعات، وتحتاج إلى جهد أكبر لإعادتها إلى ما كانت عليه - إذا طغت تلك النزاعات - حيث تبرز الحاجة إلى إصلاح ذات البين، ومن هنا اكتسب إصلاح ذات البين منزلة عالية من منازل الطاعة والإحسان، قال جل شأنه: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء: 114 المؤسف والمؤلم في الوقت ذاته أن هناك مَن يتعللون في قطيعة أرحامهم بأن أرحامهم هم مَن بدؤوا بالقطيعة، وهؤلاء أخطأوا أولًا في أنهم قابلوا الإساءة بالإساءة ولم يدفعوا بالتي هي أحسن لتتحقق الموالاة الحميمة بعد العداوة، حسبما أخبرنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم} فصلت: 34 كما أخطأوا ثانيًا في أنهم ساووهم في معصية قطيعة الرحم، وأخطأوا ثالثًا في أنهم ظنوا أن الوصال لا يصلح أن يكافأ به من يقاطع، مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لَيْسَ الْوَاصل بِالْمُكَافِئ، وَلَكِنْ الْوَاصِل الَّذِي إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا) رواه البخاري. وفضلًا عن تعلل بعض الناس في قطع الأرحام باستحقاق أهليهم للقطيعة فإن هناك من يتخوفون من إراقة ماء وجوههم وإحراجهم - إذا ردهم بعض ذوي أرحامهم القساة الذين لا يقبلون منهم صلحًا، ولا يلينون لهم جانبًا، وفي مثل هؤلاء ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل فقال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأُحسِن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْت فكأنما تُسِفُّهُمْ المَل، ولا يزال معك منْ الله ظَهِيرٌ عليهم ما دمت على ذلك) رواه مسلم. ختامًا.. مهما كانت العقبات والصعوبات، فلابد من استمرار جهود ومساعي الصلح والإصلاح واستغلال المناسبات السارة ومواسم الطاعات التي تلين فيها المشاعر وترق القلوب لكي نصل ما انقطع من رحم ونكون من العاملين بقوله تعالى: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يُوصَل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب} الرعد: 21 [email protected]