الراجل إدّاك دش بارد على دماغك - إتلهي بقه على عينك و يا ريت تبطل فلسفة هذه جملة من إحدى الرسائل التي تلقاها بريدي الإلكتروني منذ مدة (منقحة) و رغم سعادتي بها إلا أنها أثارت فيّ أمراً أحببت أن أشرك القرّاء معيّ فيه. حين أقول سعادتي فهذه السعادة مصدرها عقلي و قناعاتي لا نفسي الإنسانية. عقلي يقبلها لا لشيء إلا لأنني أؤمن بحق كل إنسان في الإختلاف مع وجهة النظر المعروضة و حقه في عرض وجهة نظره و ليس أبرع في هذا المقام من ذكر قصة سيد البشر رسول الإنسانية و المبعوث للثقلين سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم مع عتبة بن ربيعة حين أتاه يكلمه. لقد قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم: يا أبا الوليد قل أسمع! رسول الله يعلم أنه مشرك و يعلم أن ما سيعرضه عليه لا و لن يقبله الله و رسوله - إلا أنه قال له قل أسمع و لم يحجر على رأيه و لم يُشر له أن إبتعد و لم يخبره أن لا حاجة لي بما ستقول أو أي من هذا كله بل طلب منه أن يبسط رأيه ليسمعه أولا. أما عظمة الدرس فهي في أنه قال له عقب أن أنهى كلامه: هل إنتهيت يا أبا الوليد - مخافة أن يقاطعه في الحديث و ليتأكد من تمام عرض الرجل لفكرته - سبحان الله أي أدب!؟ هو أدب ربّاني بالتأكيد) فقال عتبة نعم. فقال سيد البشر صلوات الله و سلامه عليه - فإسمع إذن: ثم أسمعه رسول الله صلى الله عليه و سلم أوائل سورة فصلت، (وفي رواية) فلما بلغ قوله: ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) (سورة فصّلت:13) أمسك عتبة على فم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وناشده الرحم ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عتبة إلا وقد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت! فغضب وأٌقسم ألا يكلم محمداً أبداً، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، ولما بلغ (صَاعِقَةً مِثلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) أمسكت بفيه وناشدته الرحم، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب! (يعلم أنه لا يكذب و يؤمن أن ما يقوله يحدث!!!) هذا ما حدث و هو ويا للعجب و يا للمعجزة لم يُفضي إلى إسلام الرجل لا وقتها و لا بعدها (قتل يوم بدر على يد أسد الله) - إذن لقلنا تابعٌ لمحمد يمدحه و يمدح دينه. فهل بعد هذا نبحث عن فن الإختلاف و أدب سماع الطرف الاخر و إتاحة الحرية له في عرض أفكاره و إن إختلفنا معها بل و إن ناقضناها؟ و هل هناك إختلاف أكبر من هذا الذي بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و محاوره؟ (ملاحظة: هذه القصة بها من العبر و الدروس الإجتماعية و النفسية و السياسية و الإقتصادية (!) و السلوكية و الأمنية ما قد تكتب له مجلدات) فإذا كنّا نقرأ كتب السيرة و نحفظ أقوال رسول الله صلى الله عليه و سلم من دون أن نتفكر فيها و أن نعيّها فما معنى أن تمتلئ ذاكرتنا بكلمات لا نفقهها و قيم لا نعلم عنها أكثر من أننا نرددها دون تطبيقها عمليا على أنفسنا و على مجتمعنا (والتطبيق هو الإحياء). إن إعمال العقل في ما جائنا عن ربنا و ما أتانا من سيرة نبينا ليس عيباً و إلا فكيف سنتعلم و كيف نتطور؟ حين قرأت مستشرقة غربية (لا يحضرني إسمها للأسف) قول الحق تبارك و تعالى (يَ ا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الكافرين) قالت: لو أن محمداً يكذب ما كذب على نفسه - إذ كيف يخاطر بهدم دعوته إذا لم يكن هناك حقاً من يعصمه من الناس!؟ هي مختلفة مع الإسلام لكنها لم تمنع عقلها من البحث و التحري (بعقل مفتوح - لا بعقل متعصب كعقل عُتبة) فكان أن غيرت دينها و معتقدها وحياتها بشكل كامل. المشكلة أن البعض - وهو كثير - تربى على ثقافة "المطلق" وهي أن الحق (و أنت بالتالي كصديق أو زميل أو ما شابه) إما معي أو مع الأخر (طريقة الرئيس بوش) و لم نتعلم مطلقاً انه قد يكون معي (أي المتحدث) بعض الحق و مع الأخر (أي المتلقي بعقله و فكره) بعضه الأخر و بالتحاور تكتمل الصورة لكلينا معاً (ما كان موضوع الحوار غير عقدي - فهذا له شأن أخر وأيضاً فيه فن للإختلاف لكن بين المرء و نفسه حتى يصل إلى الحق و الحقيقة - و منه أيضاً فن الدعوة). كما أننا لم نتعلم أبداً أن الحقيقة أصبحت كالجواهر النادرة يبحث المرء عنها دوما و ما يجد منها إلا القليل. حتى العلم - مثلاً - له صفة تراكمية بمعنى أننا نفهم اليوم عن أمر ما شيئاً ثم نبني عليه علوماً و نظريات و حقائق تتطور مع الزمن لتتطور معرفتنا بكاملها و غالباً ما يكون التطور إختلاف نظريات علمية مع مشاهدات تجريبية وفي العلم - مَن أسعد حالاً من عالم وضع نظرية كانت هي ذاتها لبنة في بناء نظرية أكبر وأوسع؟ تشملها كحالة خاصة في ظروف خاصة؟ حين يتحاور إثنان في امر عقلي لا يمكن أن نجزم بأن الحقيقة تنتمي بتمامها إلى أي منهم فقط ذلك أن المنطق يقول أنه ما كان المتحاوران عاقلين فإنه و لابد لكل منهما منطقاً قد يكون صحيحاً. بل إن قواعد المنطق لا تجزم بأنه حتى ولو كان أحدهما مجنوناً فإن نسبة الحق معه تكون صفراً! و إني لأتذكر دوماً مثالاً فيزيائياً (بسيطاً) عن النسبية يقول: تخيل أنك تقف على محطة قطار و ان قطاراً يسير امامك به شخص يحمل كرة و يتركها لتسقط على الأرض - فكيف يكون مسارها امامك؟ و الإجابة هي: تسير في قطع ناقص (أي في شكل جزء بيضاوي - الربع منه الذي يشير تحدبة لإتجاه القطار) غير أن سؤالاً ثانياً يجب طرحه يقول: و كيف يكون شكل المسار بالنسبة للرجل الذي يترك الكرة لتسقط؟ و الإجابة هي: خط مستقيم! فيا ترى أي المسارين سارت فيه الكرة!؟ ختاماً: أعتذر للأخ كاتب الرسالة عن عدم إستطاعتي القيام بما طلبه مني. فلن "أتلهي على عيني" و لن أتوقف عن عرض رأيي كما أراه Masry in USA