تبنت الدوائر الاستخبارية في الولاياتالمتحدةالأمريكية إستراتيجية جديدة تقوم على تكثيف ضغوطها باتجاه ما يسمى الحرب العالمية ضد "الإرهاب" في الصومال، البلد الفقير والمنقسم في القرن الإفريقي، الذي يعاني من الفوضى منذ بداية الحرب الأهلية عام 1991، حيث أصبح بلا حكومة منذ أن أطاح قادة ميليشيات بالرئيس محمد سياد بري، والتي تسببت في مقتل 300 إلى 500 ألف شخص. تقوم الإستراتيجية على سياسة استقطاب وإقناع القبائل والعشائر الصومالية ماديا، برفع الحماية عن أبنائهم "الإسلاميين" والمتعاطفين مع الإسلاميين من العرب وغيرهم، بهدف محاصرة التيار الإسلامي "الجهادي" المتنامي في البلاد، أين أصبح نفوذه يقلق "بارونات" الحرب والميليشيات المتناحرة. وجرت اتصالات رسمية في نيروبي بكينيا بدعوة من السفير الأمريكي ودبلوماسيين أمريكيين مع شيوخ وشخصيات من قبيلة "عير" المخزون البشري لعناصر اتحاد المحاكم الإسلامية، التي تضم إسلاميين تعتبرهم الولاياتالمتحدةالأمريكية أعضاء في تنظيم القاعدة، وطلب الجانب الأمريكي من شيوخ القبيلة رفع الحماية التي يوفرونها لعناصر إسلامية "خطيرة" محددة تنتمي للقبيلة، والتعاون مع الأمريكيين لمكافحة "الإرهاب". وانفجر الصراع الدموي بين تنظيم المحاكم الإسلامية وعدد من أمراء الحرب الصوماليين على خلفية إلقاء القبض على عدد من الإسلاميين من جنسيات صومالية وأجنبية، والذين تم تسليمهم إلى دول أجنبية، منها الولاياتالمتحدةالأمريكية، واتهم قادة المحاكم الإسلامية الوزراء المنضوين في ميليشيات "تحالف مكافحة الإرهاب"، بالتورط مباشرة في اغتيال وتسليم إسلاميين إلى جهات أجنبية، في صفقة مربحة بالنسبة للولايات المتحدة التي تسعى في إطار حساباتها الجغرافية الإستراتيجية، لإعادة تثبيت نفوذها في منطقة القرن الإفريقي، إحدى بؤر الأزمات والحروب، بعد العملية العسكرية الفاشلة والمهينة التي تورطت بها واشنطن في الصومال عام 1993 في عهد الرئيس بيل كلينتون، تحت مظلة الأممالمتحدة، والتي أطلق عليها عملية ( إعادة الأمل). ومنذ هجمات الحادي عشر من أيلول عام 2001، ركز البنتاغون جهوده العسكرية في اتجاه تدعيم قاعدته الوحيدة في إفريقيا، في دولة جيبوتي القريبة من الحدود الصومالية، بعد ورود التقارير الاستخبارية لعدد من الدول الغربية والإسرائيلية حذرت فيها من انتشار عناصر شبكة القاعدة في منطقة القرن الإفريقي، وخاصة في الصومال الحلقة الأضعف في المنطقة. * النشأة في 1994 والبروز في 2003: يمتلك "اتحاد المحاكم الإسلامية" حوالي 12 محكمة في مقديشو العاصمة الصومالية المدمرة، أين أصبح يسيطر على كل شمالها، خلاف الجنوب الواقعة تحت سيطرة "التحالف لإرساء السلم ومكافحة الإرهاب". أنشأ حصريا عام 1994 من أجل حماية المحاكم، ظلت الجهة الوحيدة التي تحوز على ثقة الصوماليين بعد خراب البلاد والعمران وسقوط كل المؤسسات الشرعية والرسمية، ويهيمن عليه تيارات إسلامية مختلفة، سلفية وجهادية، تقليدية وصوفية. وعاد بقوة من جديد في 2003، وهو عبارة عن أجهزة أمنية وقضائية، ساهمت إلى حد كبير في إعادة الأمن إلى أجزاء معتبرة من العاصمة، وبسط السلم، وتحكيم الشريعة، ومحاربة الرذائل، وتعليم الناس، نظرا لقوة تنظيمها، ونزاهة قادتها سياسيا وماليا وتاريخيا، وانتشارها في أغلب شوارع العاصمة، وقبولها شعبيا، خلاف ما يشاع عن زعماء وعناصر ميليشيات التحالف، الذين يسعون قبل كل شيء إلى الاحتفاظ بالسلطة مهما كلف ذلك وجمع الأموال. وهذه الميليشيات كمثل سائر من تجنده أمريكا في حربها ضد ما يسمى "الإرهاب العالمي"، لصوص وقطاع طرق، ومافيا فساد، وتجار الدمار والدماء، وقد رصدت تقارير مركز أبحاث المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات الكثير من الجرائم التي ارتكبتها في حق الشعب الصومالي. في المقابل، يتهم أمراء الحرب من ميليشيات "التحالف لإرساء السلم ومكافحة الإرهاب"، التي يقودها وزير الأمن الوطني محمد قنيار افراح، وعدد من الوزراء في الحكومة الشكلية (التجارة والأوقاف، وتأهيل المليشيات)، والتُجَّار ورجال أعمال محليين، وأمراء الحرب القدامى، قادةَ المحاكم الإسلامية بسعيهم للسيطرة على البلاد، وإقامة حكم إسلامي متشدد على غرار نظام طالبان بأفغانستان، وإيواء عناصر "إرهابية" تنتمي إلى تنظيم القاعدة، وتدريب مقاتلين أجانب على الأراضي الصومالية، وهو ما ينفيه قادة اتحاد المحاكم الإسلامية. فقد جاء في بيان تأسيس التحالف أن "الإرهابيين الصوماليين يؤوون عناصر تابعة لتنظيم القاعدة مطلوبين دوليا في مقديشو، ويسعون إلى إقامة نظام إسلامي على غرار طالبان". وذكرت بعض التقارير الاستخبارية أن ثلاثة أو أربعة من أخطر عناصر القاعدة، بعضهم من منفذي هجمات كينيا وتنزانيا في 1998، يقيمون في الصومال، وأنهم يتواصلون مع باكستان ومع دول الخليج للتخطيط لعمليات "إرهابية" في المستقبل. وكان تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن قد استهدف عام 1998 السفارتين الأميركيتين في كينيا المجاورة للصومال –قاعدتها المتقدمة- وتنزانيا باعتداءين أوقعا 224 قتيلا، ثم نفذ عام 2002 عملية في كينيا في مومباسا ضد فندق يستقبل سياحا إسرائيليين، وقيل حينئذ إنه استُخدم مقرا للموساد، أسفرت عن سقوط 18 قتيلا. * (80 %) من مقديشو تحت إمارة "اتحاد المحاكم الإسلامية": على الصعيد الإستراتيجي، حقق المقاتلون الإسلاميون التابعون للمحاكم الشرعية تقدما ميدانيا في المواجهات وباتوا يسيطرون على (80 %) من مقديشو، بحسب تقرير أصدرته مجموعة خبراء من الأممالمتحدة تابعة لمنظمة دولية تراقب تطبيق الحظر المفروض على تصدير الأسلحة إلى الصومال، ونشر في نيويورك وتناقلته وسائل الإعلام العالمية. وجاء في التقرير أن: ("الأصوليين" يسيطرون حاليا على حوالي 80 % من مقديشيو، ويفرضون أنفسهم كقوة ثالثة مستقلة في المعارضة للحكومة الفدرالية الانتقالية). وأضاف التقرير الذي نشر بتاريخ 1- 5 - 2006: (إن الميليشيات التابعة ل"اتحاد المحاكم الإسلامية" بالصومال أصبحت على وشك السيطرة على "التحالف لإرساء السلم ومكافحة الإرهاب" الذي تدعمه الولاياتالمتحدة، ويضم أمراء حرب). وأوضحت المجموعة التي ترفع تقاريرها إلى مجلس الأمن، أن ميليشيات التحالف "ضعفت كثيرا" بعد سلسلة المعارك الدموية التي خاضتها ضد الميليشيات التابعة ل"اتحاد المحاكم الإسلامية"، التي عززت مواقعها في قطاعات كان التحالف يسيطر عليها في السابق. * وراء كل شر أمريكا!! وبحسب المحللين العسكريين، تمول الاستخبارات الأمريكية حملتها ضد "مكافحة الإرهاب" في إطار العمليات السرية للحرب التي وضع خططها جنرالات البنتاغون، في أكثر من موقع ونقطة في العالم، بهدف تفادي وقوع هجمات جديدة في شرق إفريقيا وإيقاف ما تزعم أنه صعود لأفكار "طالبان" وتأثيرها على فقراء القرن الإفريقي، ضحايا سياسات الكبار وصراعات النفوذ واقتتال الأشقاء. ومن أجل إزالة خطر انتشار تنظيم القاعدة في الصومال، قامت الاستخبارات الأمريكية بتأمين صور عسكرية بالأقمار الصناعية لمراكز قيل إنها لتدريب عناصر أجنبية منتمية للقاعدة، ومكالمات هاتفية ورسائل إلكترونية ومكتوبة، في محاولة لتبرير مخاوف واشنطن بأن الصومال أصبح فعلا الوجهة المميزة لعناصر القاعدة التي ضاقت بهم السبل في بلادهم بعد إحكام الحصار عليهم من طرف قوات الأمن الداخلية والمراقبة الدقيقة للشرطة الفيدرالية الأمريكية. * حرب قذرة صامتة: إستراتيجية الولاياتالمتحدةالأمريكية في الصومال، يلخصها "صدقا" تصريح جينداي فريزر مسئولة الشئون الأفريقية بوزارة الخارجية الأمريكية بأن: "الولاياتالمتحدة تبحث عن حلفاء لمحاربة القاعدة والعناصر الإرهابية في منطقة القرن الأفريقي"، لكنه أحجم عن تأكيد أو نفي دعم واشنطن لزعماء الحرب الصوماليين. في نفس الإطار ذكرت مصادر صحفية غربية وأمريكية مطلعة، أن وفدا من الاستخبارات الأمريكية قدم منذ أسابيع إلى مقديشو، والتقى أمراء الحرب، وذلك لتنسيق حملة عسكرية على هيئة المحاكم الإسلامية والنشاط الإسلامي في الصومال. فكيف إذن، يتم فرض السلم ووقف إطلاق النار بين المتصارعين إذا كانت الولاياتالمتحدة لا ترغب في ذلك؟ وكيف يمكنها إقناع اتحاد المحاكم الإسلامية – خصمها المباشر- بالجنوح إلى السلم والعودة إلى مناطقها الأصلية، إذا كانت أمريكا نفسها تمول بالمال والسلاح والخبراء والوثائق والصور وتوفر الدعم السياسي، وجعلت قواتها سيما الجوية إسنادا في أيّ مواجهة يخوضها غريمها ميليشيات "تحالف مكافحة الإرهاب"؟ هنا، يمكننا أن نقول بأن الإدارة الأمريكية أحسنت استغلال الاشتباكات الحاصلة بين الفصيلين المتحاربين بذكاء لإدارة الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين باعتبارهم أولا وأخيرا زعماء حرب. وذكر مراقبون، أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي أي إيه) دفعت مبلغ 8 ملايين دولار ل "التحالف لإرساء السلم ومكافحة الإرهاب"من أجل تنفيذ هذه المهمة. وقال مسئول أمريكي آخر في واشنطن من سفارة نيروبي "ستفقد القاعدة أي سيطرة هناك ونريد توقيفهم (...) نحن نمول الميليشيات لتقوم بعمليات الخطف!!". بيد أن مصادر رسمية أمريكية أقرت علنا بوجود اهتمام خاص ب"التحالف لإعادة السلام ومكافحة الإرهاب". وقال مسئول أمريكي في هذا الإطار "لم نتغيب عن المحادثات المتعلقة بإنشاء التحالف". ورغم أن البيت الأبيض لم يؤكد صراحة دعمه للتحالف، إلا أن مسئولين أمريكيين صرحوا أن التحالف تلقى أموالا أمريكية وأنه أحد الأطراف العديدة التي تعمل معها واشنطن لاحتواء تهديد "المتطرفين الإسلاميين". ولا ينفي "التحالف لإرساء السلم ومكافحة الإرهاب" أنه يتلقى الأموال من واشنطن. إنَّ جهود اتحاد المحاكم الإسلامية ما هي إلا محاولة شعبية من قطاعات الشعب الصومالي، الذي عانى الكثير، والبلد العربي الذي تجاهلته جامعة الدول العربية، لإشاعة الأمن، ومساعدة المحتاجين والفقراء على شئون حياتهم، وتطبيق القانون الوحيد الذي يحوز الثقة: "الشريعة"، وقد وجه الاتحاد نداءً عاجلا لإيقاف تدخلات أمريكا السافرة في شئون الصومال، وأكّد أنه ليس في الصومال ما تدّعيه من (الإرهاب) و(الإرهابيين )، وإنما هو غطاء للهيمنة، ومسوّغ للاحتلال، وما حدث بالعراق ليس ببعيد عنا. المصدر : العصر