حضرت مؤتمرا في التسعينيات عندما كانت مشكلة البوسنة والهرسك في أوجها، وكان من ضيوف المؤتمر الشيخ محمد الغزالي (رضي الله عنه) وكان يعلق على أحوال المسلمين في عالم اليوم ويستنكر اهتمامهم بالفرعيات والقشور على حساب عظائم الأمور، وشبه هذا الأمر تشبيها ما زلت أذكره حيث قال: "إن الأمة الإسلامية أصبحت في حال تشبه فيه إنسانا مريضا بسرطان الدم لكن ما يؤرقه مشكلة قص أظافره". نعم، أصبحنا في غيبوبة لا ندري ما نحن عليه من خطر، فنتشاجر ونتعارك على توافه الأمور وصغارها ونترك أعظمها يدبره غيرنا. ما استفزني كثيرا هو شيوع القضايا التافهة التي ينشغل بها الرأي العام يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، ويستوي في ذلك طرفان نقيضان هما أقصى يمين الحركة الإسلامية وأقصى يسار الحركة العالمانية، وكانت معركة الشيخ الغزالي (رحمه الله) مع الفريقين، وقد أبلى فيها بلاء حسنا فجزاه الله خيرا عن جهاده. على المستويين الداخلي والخارجي تمر الأمة الإسلامية والعربية بمشاكل قاسية ومنعطفات فاصلة فها هو الشعب الفلسطيني يجوع وحوله رجال طوال عراض وحكام ومحكومون يسدون عين الشمس، ولا يجرؤ واحد منهم أن يكسر الحصار الظالم الذي تفرضه ولية نعمهم الحاجة أمريكا. وها هو العراق يتفكك ويتفحش فيه القتل والقتلة، ويستأسد أهل الفتنة وأجهزة الاستخبارات المعادية والصديقة وكل من هب ومن دب يعبث به. وعلى مرمى البصر يجوع أكثر من 11 مليون مسلم بالصومال ولا تكف أمريكا عن مغامراتها وطموحاتها الشيطانية. والإخوة الأعداء في لبنان ما زالو يتناحرون، والمغرب العربي ما زالت جماعاته وحكوماته يتربص كل منهم بالآخر. وها هي مصر تسير نحو شيء مجهول لا يعلم مداه إلا الله. وغير ذلك من عشرات القضايا التي تحتاج إلى كل فعل وكلمة وفكرة لحلها وتجاوزها والصمود أمام تحدياتها، لكن خرج علينا البعض مبتدعا قضايا ثانوية تافهة ليشغل بها قطاعا من الرأي العام مما يسهم في صرف الأنظار والمجهودات عن القضايا المحورية. ومن ذلك ما خرجت به علينا الحاجة نوال السعداوي وتأكيدها على أهمية أن ينادى الشخص باسم أمه تكريما لها ومحاربة للمجتمع الذكوري ... إلى آخره من كلام معاد ممجوج سئمناه، والتف حولها نسوة قطعن أيدينا وسفهن حضارتنا وقيمنا يدافعن عما ارتأوه معركة مصيرية يجب أن تراق من أجلها الكلمات والأفكار وأن تستل سيوف الندب والشجب والولولة. كنت أتمنى أن أرى هؤلاء ينتفضن في مقدمة الصفوف التي تطالب بالإصلاح، وأن يفرغن ما لديهن من طاقة كلامية أو فعلية لنصرة القضاة والمطالبة بحياة كريمة لعموم الشعب المصري وبعد ذلك يتفرغن لمعاركهن مع الرجال. وكذلك لا يجد مولانا رفعت السعيد ميدانا ليحارب فيه إلا ميدان الإخوان لدرجة جعلتني أشعر أنه – من وجهة نظره - يتقرب إلى الله بسبهم وتشويه نضالهم والاعتداء على علمائهم بأفكاره المغلوطة وتحليلاته الشائهة، ولا أدل على ذلك من أنه ضيف شرف على صحف سيئة السمعة اشتهرت بمعاداة الشعب المصري ودائما ما نراها تكرس للاستبداد متخذة سبيل التلفيق والكذب وسيلة لأغراض وضيعة. كنا نتمنى أن نرى الأخ الشيوعي المجاهد رفعت السعيد يرفع منجلا ومطرقة في وجه الاستبداد ومحاربة الفساد وأن يهب لمناصرة القضاة والمهنيين على تنوعهم واختلاف مشاربهم في معركتهم مع القهر ونضالهم ضد الظلم. وليتك يا رفيق تعتبر بقول المتنبي الذي قاله منذ ألف عام تقريبا: نامت نواطير مصر عن ثعالبها وقد بشمن وما تفنى العناقيد فكن ناطورا يقظا يا أخ رفعت ويمكنك إرجاء معاركك المصيرية مع الإخوان وغيرهم بعد أن يتحقق الإصلاح المنشود. على الهامش: - خرج التافهون والتافهات للتعبير عن تضامنهم مع المطرب المزور وافتدوه بأنفسهم وأموالهم فتعاملت معهم قوات حفظ الوطن بالنعومة والرقة التي تناسب المطرب والفرافير والفرفورات. وفي التوقيت نفسه كانت هناك قوات تتعامل بالغلظة والقسوة والسحق والمحق التي تناسب أساتذة الجامعات والمحامين والصحفيين وغيرهم من أفراد الشعب المتضامنين مع القضاة الإصلاحيين، واستوى في البطش الرجال والنساء تحقيقا لمبدأ المساواة الذي تطالب به الحاجة نوال بنت (لا أعلم اسم أمها) السعداوي. المشهد يمثل كوميديا سوداء لا يحتملها المرضى بالقلب أو الجنون أو حتى أصحاب العقول. - سمعت منذ فترة شيخا يسمى أبا إسحاق الحويني يخوض معارك طاحنة ضد الفساد والإفساد في الدين الذي يروج له عمرو خالد وأقرانه فشعرت بضيق ومرارة. يا مولانا، المعركة الحقيقية ليست مع عمرو خالد أو حليقي اللحى ومسبلي الثياب، المعركة الحقيقة مع الفساد والفقر والجوع والحرمان واختلال موازين العدالة. تذكرت ساعتها الشيخ محمد الغزالي وترحمت عليه ألف رحمة. وتذكرت قول الشاعر: خلا لك الجو فبيضي واصفري شاعر مصري [email protected]