وُصفت الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت لفرنسا هذا الأسبوع، في إطار جولة أوروبية لحشد التأييد لمشروعه الأُحادي المسمى"خطة أولمرت"، بأنها زيارة هامة في مسلسل العلاقات المتطورة بين تل أبيب وباريس . والواضح أن الأزمة السياسية التي تعيشها فرنسا هذه الأيام واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية من شأنها دفع الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى التقدم خطوات إلى الأمام في اتجاه تحسين علاقات بلاده مع الدولة العبرية. أولمرت وصف علاقات إسرائيل بباريس بأنها جيدة، وأوضح بأنه يسعى إلى الحصول على دعمها لتنفيذ خطته الأُحادية الجانب بسبب"عدم وجود مخاطَب فلسطيني" حسب تعبيره، مضيفاً بأن هدفه هو"الاستماع إلى نصائح السيد جاك شيراك". واللافت أن زيارة أولمرت إلى فرنسا تمّت إحاطتها بكثير من الاهتمام في إسرائيل، كونها الأولى لمسؤول إسرائيلي كبير بعد زيارة أرييل شارون في العام الماضي التي رافقتها ضجة عالية، سرعان ما انحنت لها فرنسا بسبب كثافة القصف الإعلامي المؤيد لإسرائيل في وسائل الإعلام الفرنسية؛ إذ تم التركيز على قضية هجرة اليهود الفرنسيين إلى إسرائيل، وقد نشرت صحيفة"هآرتس" العبرية أرقاماً تشير إلى ارتفاع نسبة المهاجرين اليهود الفرنسيين خلال العامين الماضيين، مسجلة ارتفاعاً طفيفاً، ولكنه مهم؛ لأنه مرشح للتزايد خلال السنوات المقبلة. ففي العام 2003 هاجر (2100) يهودي فرنسا إلى إسرائيل، وفي العام 2004 ارتفع هذا الرقم إلى (2415)، ليصل إلى (3000) شخص العام الماضي، ويُتوقع أن يصل خلال العام الجاري إلى (3500)، وأشارت تلك الأرقام إلى أنه من بين (319) يهودياً هاجروا إلى إسرائيل الأسبوع الماضي من الولاياتالمتحدة وبلدان الاتحاد السوفييتي السابق وإثيوبيا، هناك (39) يهودياً فرنسياً. تهاوي صورة فرنسا ربما كانت المصادفة وحدها هي ما جعل زيارة أولمرت تتزامن مع نشر نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه معهد(بيو) الأمريكي للاستطلاعات حول صورة عدد من البلدان الأوروبية والولاياتالمتحدةالأمريكية في العالم العربي والإسلامي. وقد سجلت النتائج هبوط نسبة من ينظرون إلى فرنسا نظرة إيجابية عما كان عليه الأمر في السنة الماضية؛ إذ تراجعت النسبة مثلاً في أندونيسيا من 68 إلى 52% ، وفي الأردن من 50 إلى 46%، وفي باكستان من 32 إلى 25%، وبدا جلياً أن المناخ السياسي الدولي الذي أفرزه الموقف الفرنسي المعارض للحرب على العراق قد اختفى تماماً من اللوحة ليحل محله مناخ جديد يطبعه التسليم الفرنسي بالسياسات الأمريكية في العالم وعدم الاعتراض عليها. إسرائيل ونافذة الفرص الفرنسية المفاجأة الأخرى التي تستدعي الوقوف عندها هو ما كشفته تلك النتائج ذاتها، من ارتفاع نسبة المؤيدين لإسرائيل في فرنسا خلال العام الجاري،؛ إذ ارتفعت هذه النسبة من 20% خلال العام 2004 إلى 38% حالياً، وهو رقم يُستدل به على أن السياسة الفرنسية قد أحدثت انعطافاً كبيراً في موقفها من الدولة العبرية خلال العامين الأخيرين، ويكشف عن وجود نشاط قوي للوبي المؤيد لإسرائيل في فرنسا. نتج هذا التحول في الموقف الفرنسي إزاء إسرائيل عقب الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء السابق أرييل شارون في أغسطس من السنة الماضية. لقد حرص اللوبي اليهودي الناشط في فرنسا على إحاطة زيارة شارون بكثير من الاهتمام الإعلامي، وتم إبراز الزيارة باعتبارها "فرصة" لتحسين العلاقات بين الجانبين، في ظل ظروف دولية متوترة طبعها مشروع شارون للانسحاب الأُحادي من غزة، والاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق وتداعياته في المنطقة، ورغبة إسرائيل في تحقيق اختراقات ديبلوماسية على صعيد المنطقة والعالم الغربي، فكانت فرنسا بمعارضتها لاحتلال العراق تبدو كعائق أمام هذا الطموح الإسرائيلي، ليس فقط كدولة قائمة الذات بل كصوت مسموع ومؤثر داخل الاتحاد الأوروبي، في توقيت ميزته الدعوة إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية في بلدان الاتحاد بسبب سياسات شارون العدوانية.أما على الصعيد الداخلي في فرنسا، فقد سجل تزايد بعض الأعمال المعادية لليهود، بعضها لم يكن مستبعداً أن تكون وراءه أيادٍ إسرائيلية بهدف إثارة ملف العلاقات الإسرائيلية الفرنسية وفتح نافذة للفرص في فرنسا. وهو ما حصل بالفعل؛ إذ لوحظ أن شارون كان لديه ملفان خلال زيارته لفرنسا، علاوة على ملف الانسحاب من قطاع غزة والسعي إلى تحصيل التأييد الفرنسي والأوروبي له: الملف الأول يتعلق بالجاليات المسلمة؛ إذ حاول شارون واللوبي اليهودي الفرنسي إثارة قضية المسلمين الموجودين في فرنسا، والحديث عن رقم 10% من عدد السكان كشكل من أشكال التخويف منهم، ومن ثم إثارة مسألة ترابط الإسلام بالإرهاب التي ظل الإعلام الغربي والفرنسي يعزف عليها بشدة وبشكل متكرر قاد إلى ترسيخها في العقل الغربي، أما المسألة الثانية فتتعلق بالأعمال التي تستهدف اليهود الفرنسيين؛ إذ استغلها شارون لإثارة قضية هجرة هؤلاء إلى إسرائيل، والهجوم على فرنسا مطلقاً عبارة "اللاسامية الوحشية" على تلك الأعمال، مما أثار قلق الفرنسيين، وبالفعل ما كاد شارون يطأ أرض فرنسا حتى تم الإعلان عن تراجع عدد الهجمات التي كانت تستهدف اليهود، وصرّح شارون أنه يتطلع إلى هجرة مليون يهودي فرنسي إلى إسرائيل خلال الخمسة عشر عاماً المقبلة، ودخلت العلاقات الفرنسية الإسرائيلية منعطفاً آخر في ضوء تلك الزيارة التي اعتُبرت"تاريخية"؛ إذ رحّب شارون بالتقارب الذي حصل بينها وبين كل من واشنطن ولندن في الملف اللبناني السوري، بوصفه "تكفيراً" عن الاعتراض الفرنسي السابق على غزو العراق، وبداية جديّة للتحرك المشترك في المنطقة لفائدة إسرائيل. مواقف فرنسية غريبة بعض المراقبين الفرنسيين يرون أن ما يحصل في السياسة الفرنسية اليوم ناحية إسرائيل يدفع نحو الاقتراب من مواقف اليمين الفرنسي المتطرف المؤيد بشدة للدولة العبرية، والذي صرّح زعيمه (جون ماري لوبين) قبل ثلاث سنوات أن ما تقوم به إسرائيل في فلسطين شبيه جداً بما كانت تقوم به فرنسا الاستعمارية في الجزائر، لكن هذا التصريح الخطير لم يقابله تحرك الأحزاب السياسية والمنظمات الفرنسية في ذلك الوقت لإدانته، بسبب تقوّي النفوذ الواسع المناصر لإسرائيل، وهو ما جعل باحثاً معروفاً في الأوساط الفرنسية ك(باسكال بونيفاس) مدير مؤسسة العلاقات الدولية والإستراتيجية بباريس، ومؤلف الكتاب الذي حاربه اليهود الفرنسيون عام 2003 "هل يمكن انتقاد إسرائيل؟"، يقول في إحدى استجواباته الصحافية قبل أسابيع من زيارة أولمرت بأنه "من السهل في فرنسا انتقاد الجماعات العربية والمسلمة أو أي جماعة أخرى غير اليهود". مكاسب أولمرت من زيارته لفرنسا قد تتعدى الحصول على تأييدها لخطته العدوانية، بل ربما لا يحتاج المسؤول الإسرائيلي إلى دعم فرنسي على هذه الواجهة بقدر ما يسعى إلى تحصيل دعمها لترتيب العلاقات مع لبنان، وهو ما صرّح به أولمرت نفسه لإحدى الصحف الفرنسية يوم الثلاثاء الماضي، لكن الهدف الأكبر من التركيز على فرنسا هو الالتفاف على الأصوات الداعية إلى مقاطعتها داخل فرنسا وفي دول الاتحاد الأوروبي، فبعد المجازر التي نفّذتها القوات الإسرائيلية هذا الأسبوع برزت أصوات فرنسية تطالب بتفعيل قرار المقاطعة وتجميد اتفاق التبادل التجاري المبرم بين إسرائيل وبروكسيل، وبعث توصيات التقرير الذي أعده الديبلوماسيون الأوروبيون في رام الله قبل عامين حول التجاوزات الإسرائيلية في الأراض المحتلة لكن وزراء خارجية بلدان الاتحاد وضعوه على الرف، وفرض عقوبات على إسرائيل بدل الاقتصار على فرضها على حكومة حركة حماس ومعاقبة الشعب الفلسطيني، من أجل إرغامها على الرضوخ للقانون الدولي وتنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية التي قضت بأن الجدار العنصري العازل في الأراضي المحتلة غير قانوني ويناقض الشرعية الدولية. ومن أجل الاستمرار في دعم سياسة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، تواصل فرنسا الرقص على قدمين في وقت واحد، تارة مع الجانب العربي والفلسطيني، وتارة مع الجانب الإسرائيلي، لكن بطريقة مكشوفة. فباريس تحاول إبقاء الحبال ممدودة مع الطرف العربي حتى من دون تقديم ما يؤشر على ذلك بشكل ملموس، في وقت باتت الأولوية فيه لحقائق السياسة والمصالح على الأرض لا للروابط "التاريخية". وعلى سبيل المثال، لعبت فرنسا دوراً كبيراً في قرار الاتحاد الأوروبي بقطع المساعدات للفلسطينيين بدعوى معاقبة حكومة حركة حماس، لكن جاك شيراك عندما قابل الرئيسين المصري حسني مبارك والفلسطيني محمود عباس دعا إلى ضرورة إبقاء المساعدات للفلسطينيين. موقف غريب وصفه رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق الذي عمل في حكومة شيراك نفسه، (ليونيل جوسبان)، في مقال له في مايو الماضي بأنه تعبير عن"ازدواجية الخطاب". كتب إدريس الكنبوري المصدر: الاسلام اليوم