لا أعرف بالضبط من هو فيلسوف الغبرة الذي طرح لأول مرة حكاية "الدولة العميقة" في مصر مستوردًا للفكرة من سياق تاريخي وسياسي وعقائدي في تركيا مختلف كل الاختلاف عن التجربة المصرية والسياق المصري، فهذا الفيلسوف الكسول والمتحذلق ورط كثيرين من بعده في استخدام ذلك المصطلح لكي يجعلوه قالبًا جديدًا مزروعًا في وعي الإسلاميين في مصر وبشكل خاص الإخوان المسلمين وحزبهم وكوادرهم يقيسون عليه أحداث ومواجهات وصراعات التجربة المصرية ويفسرون الأحداث من خلاله، وحولوه إلى شماعة جديدة لتبرير أخطاء إدارتهم وسلوكهم في المرحلة الانتقالية الحرجة بعد ثورة يناير، والحقيقة أن الحديث عن الدولة العميقة في مصر هو حديث خرافة وأساطير لا ظل لها من الواقع ولا التاريخ ولا بنية الدولة المصرية الحديثة، ومصطلح "الدولة العميقة" ولد في تركيا مع وجود منظومة سياسية وعقائدية متطرفة جدًا ضد الإسلام كدين والعربية كلغة وهوية، مع وصول الأتاتوركيين إلى قيادة الدولة، ثم تعززت الحالة وتبلورت من خلال تنظيم سري غير منظور وغير نمطي أشبه بعمل عصابات المافيا، لكنه كان تنظيمًا يضم جنرالات في قيادة الجيش الأتاتوركي وقضاة متطرفين يهيمنون على مؤسسة القضاء بالكامل وقيادات في الاستخبارات وقيادات في المؤسسات الأمنية الشرطية ورجال أعمال وبيزنس إعلامي واسع وأباطرة لتجارة المخدرات، هذا التنظيم كان يجمعه أمران بالأساس: الفساد المالي العريض والعداء الشامل والحاقد على الإسلام وكل ما يمثله حتى لو كان "إيشارب" على رأس فتاة، وكان هذا التنظيم هو الحاكم الفعلي في الدولة التركية، هو الذي ينصب الرئيس ويسهل وصوله وهو الذي يرجح كفة حزب على حزب في الانتخابات بما يسمح له بتولي رئاسة الوزارة وهو الذي يمارس الاغتيالات السياسية الممنهجة ضد من لا يصلح معه الأساليب الأخرى وهو الذي ينظم الانقلابات العسكرية لحسم الأمور إذا انفلتت وغير ذلك من الهيمنة غير المنظورة، وظل هذا التنظيم لعشرات السنين يحكم تركيا في الخفاء، ولم ينجح أحد في تفتيت هذا التنظيم المروع سوى حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان بجهد علمي وديمقراطي وحكيم وطويل البال استغرق أكثر من عشر سنوات في تفكيكها، سجنوه خلالها لكنه عاد، وانفتاح ذكي على كل أطياف المجتمع وتحويل حزبه ذاته إلى ما يشبه الجبهة الوطنية حتى إنه كان فيها يساريون وليبراليون ولكن من غير الذين يعادون الإسلام نفسه أيديولوجيًا، وسلسلة إنجازات هائلة في البنية الأساسية والتعليم والاقتصاد والصحة والتخطيط العمراني والسكاني حولت تركيا إلى أحد أبرز اقتصاديات العالم الأول. ذلك السياق التاريخي والسياسي لا صلة له بالحالة المصرية نهائيًا، فمصر دولة بسيطة سياسيًا، الرئيس هو الحاكم وهو السلطة وهو الرأس الذي يتفرع عنه كل شيء في هيكل الدولة، والجهاز الإداري للدولة جهاز وظيفي عتيق، والجهاز السياسي والحزبي الحاكم مجرد نادٍ وظيفي ومصلحي يصنعه الرئيس ومجموعته لإكمال ديكور لا أكثر وأحيانًا يفككه ويعيد تركيبه باسم جديد بسهولة، ولا يوجد في بنية الدولة المصرية هذا التنظيم السري المافياوي الذي يجمع قضاة وجنرالات ورجال استخبارات وأباطرة مخدرات وملوك بيزنس الإعلام وغير ذلك يحكمون الرئيس ويصنعونه ويصنعون الأحزاب، كما وهو الأهم لا توجد في مصر تلك الأحقاد الأيديولوجية ضد الإسلام نفسه كتلك التي كانت لدى الأتاتوركيين، بل إن القضاء المصري على سبيل المثال ظل لسنوات طويلة متهمًا بأنه مجامل للإسلاميين، ولم يلجأ أي إسلامي إليه في مظلمة إلا أنصفه، ولا فتاة محجبة أو منقبة إلا وقضى لها ضد السلطة أيًا كانت، بل إن مشاهد التدين في قضاة مصر لا تخطئ العين انتشارها وشخصيًا أعرف قضاة ومستشارين أكثر ديانة وورعًا وصلاحًا من كثير من الكوادر الإسلامية الرفيعة الذين يتحدثون اليوم بإهانة عن قضاء الدولة العميقة المزعوم، بل بعض القضاة كان يصل بأحكامه إلى مستويات من المفاجأة التي زلزلت التيارات الليبرالية، كحكم التفريق بين نصر أبو زيد وزوجته، وكان الليبراليون المصريون يتهمون القضاء المصري بأنه قضاء إسلامي، وسبحان مغير الأحوال بعض الإسلاميين الآن يتهمون القضاء بأنه قضاء الدولة العميقة المعادية للإسلام، وفي الجيش نفسه لم يكن هناك مواقف حدية من التدين فسمت رجال الجيش المصري الأعم هو التدين ومعاركهم كانوا يخوضونها بهتاف "الله أكبر" والشؤون المعنوية قائمة في جوهرها على الصلة بالله، وكثيرًا ما واجه صحفيون أجانب مبارك نفسه بالسؤال عن انتشار التدين في الجيش، ولكن كانت المؤسسة العسكرية تبعد المنتمين إلى تنظيمات دينية لاعتبارات، أظن أننا اليوم يمكن أن نتفهم بعض مبرراتها والمخاطر التي استدعتها، ولنا أن نتخيل لو أن الجيش المصري ربع كتائبه إخوان وربعها تنظيمات شيوعية ويسارية وربعها تنظيم الجهاد وربعها تنظيمات قبطية مثلًا. وفي المحصلة، أرجو أن لا يخضع العقل المصري والعقل الإسلامي تحديدًا، لمثل هذه "الصرعات" الفكرية والسياسية التي يطلقها بعض المتحذلقين وفلاسفة الغبرة، بكسل عقلي ومهارة التلاعب بالألفاظ، لأنها مضرة جدًا، وتزور المشهد الذي نعيشه وأسباب ما وصلنا إليه وتعمينا عن رؤية أخطائنا الفادحة، وتورطنا في المزيد من الصراعات الاعتباطية مع مؤسسات الدولة التي كانت للإسلاميين صديقة، وتجعلنا نصنع عداوات مجانية بلا أي سبب أو معنى، وفي النهاية تضللنا عن استبصار طريق الخروج من أزمتنا المهددة للوطن كله. [email protected]