هل شاهدت برنامج خواطر "أحمد الشقيري"، وهو أحد الدعاة الجدد الذي قدم برنامجه في رمضان الماضي من اليابان؟ حينها انتقلنا جميعًا إلى عالم آخر من الحضارة والقيم المثالية، وقلب علينا الكثير من المواجع حين قارن بين ما رآه هناك وبين أحوالنا في الوطن العربي. إن لم تكن قد شاهدت البرنامج فأنا أنصحك بالبحث عنه من الآن، أما إن كنت قد تابعته وأبديت انبهارًا بتلك الحضارة الرائعة، فدعني أنقل إليك الصدمة التالية من خلال ما كتبته هيئة الإذاعة والتليفزيون اليابانية حينما اعتبرت أن بلادهم حاليًا تعيش أسوأ أيامها، وأن اليابان المعاصرة تقف عاجزة عن استشراف مستقبلها بوضوح، وهي مثقلة بالعديد من المشكلات مثل: قلة المواليد، ارتفاع متوسط الأعمار، قلة القوى العاملة، انخفاض القدرة التنافسية، وانهيار دور المدارس. يجب أن نعترف بأن اليابانيين ليسوا من هواة جلد الذات، ولكنهم يحرصون في نفس الوقت على المراجعة المستمرة والمقارنة مع ما وصلت إليه الأمم الأخرى، وفي نفس الوقت فهم ينظرون إلى وضعهم الحالي في العالم مقارنة بوضعهم في الماضي، وإذا كان الكثير منا يظن أن اليابان قد استطاعت أن تنهض وتحقق معجزتها المعاصرة بعد الحرب العالمية الثانية، فدعني أنقل إليك المفاجأة التالية عندما تعرف بأن اليابان كانت قد وصلت إلى ذروة نهضتها قبل ذلك بفترة، ولذلك فإن السبب الرئيس وراء قدرتها على العودة سريعًا بعد الدمار الشامل الذي تعرضت له في نهاية الحرب العالمية الثانية، هو وجود أسس النهضة ومقوماتها في عصر البناء الحقيقي، الذي يعود إلى الفترة من عام 1852 وحتى العام 1912، وهي الفترة المسماة بعصر "ميجي" نسبة إلى الإمبراطور الذي حكم البلاد في تلك الفترة. "ميجي" كلمة لها وقع خاص في قلوب اليابانيين، فعندما يسمعها الياباني تتداعى إلى ذاكرته مخيلات شتى، فقد كانت فترة حافلة بالحراك السياسي والاجتماعي، غنية بالتجارب الإنسانية، ومزدحمة بالتيارات الثقافية القادمة من الخارج، هذه الحقبة تعتبر هي نقطة انطلاق اليابان لتتبوأ مركز الريادة في آسيا القرن التاسع عشر. يهمنا اليوم أكثر من أي وقت آخر أن نتعلم من تلك الفترة التي استقبلت مرحلة التغيير مثلما نحن فيه الآن، استطاعت أن تنجز الكثير من الإصلاحات الواحد تلو الآخر، وبالتالي فهي مهمة للغاية لنا حتى نسير على نفس الطريق إن نحن عرفنا الخطوات التي تم فيها إنجاز هذا التقدم السريع في فترة وجيزة، يهمنا في العالم العربي أن نقف أولاً على مقومات النهضة اليابانية، ونتعرف علي الوسائل والطرق التي استطاع بها اليابانيون بناء دولتهم والمضي قدمًا في طريق التحديث دون أن يفقدوا هويتهم الثقافية، بل إنهم استفادوا من تراثهم الثقافي الذي أدخلوا إليه العديد مما أنتجته الحضارة الغربية، ولكن بطرق وأساليب تناسب مجتمعهم، وتحقق لهم ما كانوا يرمون إليه من طموحات كانوا يضعونها في مشروعهم لبناء يابان غنية اقتصاديًا وعسكريًا. قد يكون من الطبيعي أن يحاول البعض المقارنة بين اليابان وبين بعض محاولات التحديث التي تشهدها بلادنا، لكن الموضوعية والحياد العلمي يلزمنا أن نقف على حقيقة التجربة اليابانية بكل جوانبها أولاً، ثم ننظر فيما لدينا من تجارب قد تتشابه في قليل منها مع ما قام به اليابانيون، ربما كان ذلك التشابه في طريقة الالتقاء بالغرب، أو في الإطار الخارجي للتعامل معه، أما في التفاصيل وما يختص طريقة التفاعل مع الآخر، وما أخذوا منه وما لم يأخذوا، وما فعلوا بما أخذوا، وكيف استمروا بعد ذلك ؟ فقد تم ذلك كله بمشاركة واعية من فئات الشعب المختلفة، وفي إطار من التوجه العام الذي قاده المفكرون وقادة الرأي الذين شاركوا بأنفسهم في صنع القرار، وعلى الجانب الآخر توجد لدينا تجارب لم يكتب لها الاستمرار.. ربما لأنها قد حرمت من كل تلك المقومات، أو أنها ترتبط بفترة لا توجد فيها مثل تلك المشاركة التي قامت بها فئات الشعب الياباني، ولذلك سرعان ما انتهت طموحاتها عند أول اصطدام لها بالمصالح الغربية، ولم تستطع إعادة بناء نفسها من الداخل، لأن الداخل لم يكن هو الهدف منذ البداية، ولم يكن ينظر إليه على أنه الأساس الحقيقي للنهضة في بلادنا. إن ما يجعل يابان "ميجي" فريدة في تاريخ العالم هو محاولة بناء المجتمع الحديث والنظم الحديثة على أسس يابانية تقليدية، ومنذ ذلك العصر حاولت عدة دول نامية أن تفعل مثلما فعلته يابان ميجي ولكنها لم تستطع، لك أن تتخيل أن في الهند اليوم من يجعلون من الانجليزية لغتهم الأولى، ويبلغ عددهم أكثر من 200 مليون شخص؛ هؤلاء جميعا انفصلوا تماما عن المجتمع الهندي التقليدي ويعيشون داخل مجتمع الاقتصاد الحديث. شكرًا لصديقي العزيز "أيمن محمود" الذي لفت نظري إلى كتاب "ميجي" الثمين الصادر عن دار الشروق، والذي قام بجهد وافر في ترجمته الدكتور "عصام رياض" ليقدم لنا نموذجًا للتغيير الذي ننشده، حيث سنبحر في المقالات القادمة في عصر "ميجي" لنعرف ما كان لدى اليابان من استعدادات ومقدمات انتهت بها للنجاح في تجربة التحديث، سنتعرف على تلك الظروف التي هيأت اليابانيين ودفعتهم للانطلاق بسرعة كبيرة ليحققوا في 60 عامًا ما قد يستغرق من أمم أخرى قرونًا لتحقيقه. دعونا نفهم سويًا كيف حدث ذلك التغيير في اليابان بالجمع بين القديم والجديد، بطريقة تجمع بين الاهتمام بالتعليم، وتفعيل العنصر البشري، واستقلالية الثقافة، ودراسة خصائص هؤلاء الناس الذين جعلوا التغيير ممكنا بعد إدراك الواقع وترتيب الأولويات.. دعونا سويًا نستحضر روح "ميجي" في الأسبوع القادم إن شاء الله. [email protected]